.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

أمره الله أن ينبه بأن الخبيث والطيّب لا يستويان - الحلقة الخامسة

==========================================================

عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّه، عليه الصلاة والسلام، قال: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ على قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذا هو نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ، فذكر اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صلى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا، طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ)(صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل)
بينت الحلقة السابقة بأن خير الرزق وأطيبه، ما جاء من عمل اليد، استناداً إلى حديث نبوي صحيح، والذي تضمن الاستشهاد بنبي الله داود، عليه السلام، الذي لم يكن يأكل إلا من عمل يده.
كما بينت الحلقة بأن نعمة الرزق من الطيبات الجليلة، وتم التنويه إليها في عدد من آيات القرآن الكريم، وهي جديرة بشكر الباري جل في علاه.
والمراد بالطيبات من الرزق يتحدد بناء على السياق الذي يرد ذكرها فيه، فهي الحلال والزروع والثمار واللحوم والألبان، وسائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة، والملابس، على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها، وهي المستلذات.

طَيِّب النَّفْسِ وخبيثها
في الحديث الشريف أعلاه، استحضار لذكر نفس طيبة، وأخرى خبيثة، فالذي يستيقظ لأداء صلاة الفجر يصبح نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، أما الذي يستسلم للنوم، ويفوته أداء صلاة الفجر في وقتها من طلوع الفجر الصادق إلى ما قبل أن تبزغ الشمس، فيصبح خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ، جاء في عمدة القاري، أن قوله: (أصبح نشيطاً) أي لسروره بما وفقه الله تعالى من الطاعة، ولما بارك الله له في نفسه، وتصرفه في كل أموره، وبما زال عنه من عقد الشيطان، وقوله: (وإلاّ أصبح خبيث النفس) يعني بتركه ما كان اعتاده، أو نواه من فعل الخير، وقوله: (كسلان) يعني ببقاء أثر تثبيط الشيطان عليه، قال الكرماني: واعلم أن مقتضى (وإلاَّ أصبح) أن من لم يجمع الأمور الثلاثة، الذكر، والوضوء، والصلاة، فهو داخل تحت من يصبح خبيثاً كسلاناً، وإن أتى ببعضها.(عمدة القاري:7/194)

النهي عن استبدال الخبيث بالطيب
من متعلقات الحديث عن افتراق الطيب عن الخبيث، النهي عن استبدال الخبيث بالطيب، ومن الآيات القرآنية التي ورد فيها مثل هذا النهي، قوله تعالى:{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً}(النساء:2)، جاء في التسهيل لعلوم التنزيل أن بعضهم كان يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف، فنهوا عن ذلك، وقيل المعنى: لا تأكلوا أموالهم، وهو الخبيث، وتدعوا مالكم، وهو الطيب، {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} فنهاهم الله تعالى أن يأكلوا أموال اليتامى مجموعة إلى أموالهم، وقيل: نهى عن خلط أموالهم بأموال اليتامى، ثم أباح ذلك بقوله تعالى:{وإن تخالطوهم فإخوانكم}.(التسهيل لعلوم التنزيل:1/129)
وفي المحصلة؛ فالله ينهى عن ترك الطيب، والأخذ بالخبيث بدلاً عنه، وهذا الاستبدال يمكن أن يحدث في المطعومات، والمشروبات، والملبوسات، والأفكار، والعقائد، والمواقف، والأقوال، والأفعال.

نبات البلد الطيب ونبات البلد الخبيث
من المقارنات التي أجراها القرآن الكريم بين الخبيث والطيب، تلك التي تم التفريق فيها بين البلد الطيب والبلد الخبيث، فقال تعالى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}(الأعراف:58)، والمراد بالبلد الطيب هنا هو الكريم من الأرض، وجيد التراب، {والذي خبث} بخلاف ذلك، كالسبخة ونحوها، وقوله: {بإذن ربه} عبارة عن السهولة، والطيب والنكد بخلاف ذلك.(التسهيل لعلوم التنزيل:2/35)
يقول الرازي: إن المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، بالأرض الخيرة والأرض السبخة، وشبه نزول القرآن بنزول المطر، فشبه المؤمن بالأرض الخيرة، التي نزل عليها المطر، فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار، وأما الأرض السبخة، فهي وإن نزل المطر عليها، لم يحصل فيها من النبات، إلا النزر القليل، فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل، والأخلاق الذميمة، إذا اتصل بها نور القرآن، ظهرت فيها أنواع من الطاعات، والمعارف، والأخلاق الحميدة، أما الروح الخبيثة الكدرة، وإن اتصل بها نور القرآن، لم يظهر فيها من المعارف، والأخلاق الحميدة، إلا القليل.
وهناك قول آخر بأنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر، وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها، بل يتعب نفسه في إصلاحها، طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة، فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة، فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة، بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات، كان ذلك أولى.(التفسير الكبير:14/117)
راجين أن نكون من أصحاب النفوس الطيبة، التي تزهر بالإيمان، وأن يجنبنا الله التلبس بسمات النفس الخبيثة، مع عقد الأمل على متابعة الحديث في الحلقة القادمة عن التنبيه بأن الخبيث والطيب لا يستويان، حسب الأمر الإلهي الموجه في القرآن الكريم لرسولنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
29 جمادى الأولى 1441هـ

تاريخ النشر 2020-01-24
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس