عن الْمِقْدَامِ، رضي الله عنه، عن رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (ما أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا من أَنْ يَأْكُلَ من عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ، عليه السَّلَام، كان يَأْكُلُ من عَمَلِ يَدِهِ)(صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده)
في الحلقة السابقة تم التعرض إلى إجابة رب العزة عن سؤال وجه إلى نبيه الأسوة، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، حول ما أحل للسائلين، طالباً إبلاغهم، بأن ما أحل لهم هي الطيبات، والأكل مما يأتيهم من صيد الجوارح المعلمة، بعد ذكر اسم الله عليه، وأنكر الله تعالى تحريم الطيبات من الرزق.
خير الرزق ما جاء من عمل اليد
في الحديث الشريف أعلاه، يشيد الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالعمل اليدوي، والجهد الذاتي في استجلاب الأرزاق، وحاجات المعيشة، فيبين أن خير الطعام الذي يأكله الإنسان، هو الذي يأتي من عمل اليد، وتحت هذا العنوان العريض تندرج الموارد المنوعة التي يحصلها الإنسان بكده وجهده، وللتشجيع أكثر على العناية بهذا المنحى في استجلاب موارد الدخل، وتأكيد مكانة الحرص على تأمين الحاجات واللوازم بعمل اليد، تم الاستشهاد بنبي الله داود، عليه السلام، الذي لم يكن يأكل إلا من عمل يده.
ويستخلص ابن حجر العسقلاني من هذا الحديث الشريف فوائد، فيبين أن فيه فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره، والحكمة في تخصيص داود بالذكر، أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة في الأرض، كما قال الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل، ولهذا أورد النبي، صلى الله عليه وسلم، قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه، من أن خير الكسب عمل اليد، وفي الحديث أن التكسب لا يقدح في التوكل، وأن ذكر الشيء بدليله أوقع في نفس سامعه.(فتح الباري:4/306)
نعمة الرزق من الطيبات
مما لا ريب فيه أن الحصول على الطيبات من الرزق نعمة جليلة، ومنة عظيمة، تستحق شكر الباري عليها، مصداقاً لما جاء في قوله عز وجل: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(الأنفال:26)، ويرى كثير من المفسرين بأن المراد هنا من قوله تعالى: {وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ} هو أنه تعالى أحل لهم الغنائم بعد أن كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة(التفسير الكبير:15/121)، وقيل: إن الله جعل لكم بلداً تأوون إليه، وانتصر من أعدائكم على أيديكم، وغنمتم من أموالهم ما كنتم به أغنياء.(تفسير السعدي:1/319)
ونوه رب العزة إلى نعمة الطيبات من الرزق في عدد آخر من آيات القرآن الكريم، فذكر سبحانه تفضله على بني إسرائيل بهذه النعمة، فقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}(يونس:93)، وقال عز وجل:{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}(الجاثية:16)، والمراد هنا من قوله تعالى: {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ} تلك المنافع، وأيضاً أنه تعالى أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون، كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا}(الأعراف:137)
ويذكر الله الرزق من الطيبات في قوله تعالى:{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}(النحل:72)
وبالنسبة إلى الطيبات هنا، قال الكلبي: يعني الحلال، إن أخذتم به، وقال مقاتل: الطيبات؛ الخبز، والعسل، وغيرهما من الأشياء الطيبة، بخلاف رزق البهائم والطيور.(تفسير السمرقندي:2/282)
ويذكر سبحانه الرزق من الطيبات في سياق آخر، فيقول عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا}(الإسراء:70)
والمراد بالطيبات هنا الزروع، والثمار، واللحوم، والألبان من سائر أنواع الطعوم، والألوان المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها، وألوانها، وأشكالها، مما يصنعونه لأنفسهم، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي.(تفسير ابن كثير:3/52)
يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(غافر:64)، وفي التفسير أن المراد بالطيبات هنا المستلذات؛ لأنه إذا جاء ذكر الطيبات في معرض الإنعام، فيراد به المستلذات، وإذا جاء في معرض التحليل والتحريم، فيراد به الحلال والحرام.(التسهيل لعلوم التنزيل:4/8)
متعنا الله بالطيبات من الرزق، وهدانا سبحانه لنحل ما أحل، ونحرم ما حرم، ونميز الطيب من الخبيث، ووفقنا عز وجل إلى متابعة الحديث في الحلقة القادمة عن التنبيه بأن الخبيث والطيب لا يستويان، حسب الأمر الإلهي الموجه في القرآن الكريم لرسولنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
22 جمادى الأولى 1441هـ