.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

أمره الله أن يستعيذ من شر الوساس الخناس

==========================================================

يخاطب الله جل في علاه، نبيه الكريم محمداً، صلى الله عليه وسلم، في سورة الناس، فيقول عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (سورة الناس: 1-6)
سورة الناس وبركتها ومحورها
سورة الناس هي السورة الأخيرة في ترتيب سور القرآن في المصحف الشريف، ورقمها 114، ومن أسمائها: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، وأنها وسورة الفلق تسميان "المعوذتين"، وعنونها ابن عطية في "المحرر الوجيز" "سورة المعوذة الثانية" بإضافة "سورة" إلى "المعوذة" من إضافة الموصوف إلى الصفة. وعنونهما الترمذي "المعوذتين"، وعنونها البخاري في "صحيحه" "سورة قل أعوذ برب الناس"، وفي المصاحف القديمة والحديثة اسمها: "سورة الناس" وكذلك أكثر كتب التفسير. وهي مكية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مكية، ومدنية في قول الذين قالوا في سورة الفلق إنها مدنية. والصحيح أنهما نزلتا متعاقبتين، فالخلاف في إحداهما كالخلاف في الأخرى. (التحرير والتنوير، 30 /535)
ومن بركتها ما روته عائشة، رضي الله عنها: (أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). (صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات)
وعَنْها، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ، رَجَاءَ بَرَكَتِهَا). (صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}». (صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة المعوذتين)
يذكر عبد العز السلمان أن من هدي القرآن للتي هي أقوم، ما يأتي:
أولاً: تعليم رباني بالاستعاذة بالله رب كل شيء ومليكه، من شر الوسواس الخناس، الذي هو أصل الشرور ومادتها، وهو الشيطان.
ثانيًا: بيان محل وسوسته، وأنها صدور الناس.
ثالثًا: بيان أن الذي يوسوس، نوعان: جني، وإنسي.
رابعًا: لطف الله بعباده حيث أرشدهم إلى أسباب حفظهم. (الأنوار الساطعات لآيات جامعات، 3 /484)
ويَدُورُ مِحْوَرُ سُّورَةِ الناس حَوْلَ الاسْتِجَارَةِ وَالاحْتِمَاءِ بِرَبِّ الأَرْبَابِ مِنْ شَرِّ أَعْدَى الأَعْدَاءِ (إِبْلِيسَ وَأَعْوَانِهِ مِنْ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ)، الَّذِينَ يُغْوُونَ النَّاسَ بأَنْوَاعِ الوَسْوَسَةِ وَالإِغْوَاءِ. (التعريف بسور القرآن الكريم، 1 /1)
الاستعاذة برب الناس ملك الناس إله الناس
عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، عَنِ المُعَوِّذَتَيْنِ، فَقَالَ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: قِيلَ لِي فَقُلْتُ، فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم). (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {الله الصمد} الإخلاص: 2)
يبين الطاهر بن عاشور أن فاتحة سورة الناس شابهت فاتحة سورة الفلق، إلا أن سورة الفلق تعوذ من شرور المخلوقات من حيوان وناس، وسورة الناس تعوذ من شرور مخلوقات خفية، وهي الشياطين.
والقول في الأمر بالقول، وفي المقول، وفي أن الخطاب للنبي، صلى الله عليه وسلم، والمقصود شموله أمته، كالقول في نظيره في سورة الفلق سواء.
وعرف {ربّ} بإضافته إلى {النّاس} دون غيرهم من المربوبين؛ لأن الاستعاذة من شر ما يلقيه الشيطان في قلوب الناس، فَيَضِلون ويُضَلون، فالشر المستعاذ منه مصبه إلى الناس، فناسب أن يستحضر المستعاذ إليه بعنوان أنه رب من يلقون الشر، ومن يلقى إليهم، ليصرف هؤلاء، ويدفع عن الآخرين.
وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيباً مدرجاً، فإن الله خالقهم، ثم هم غير خارجين عن حكمه إذا شاء أن يتصرف في شؤونهم، ثم زيد بياناً بوصف إلهيته لهم ليتبين أن ربوبيته لهم، وحاكميته فيهم، ليست كربوبية بعضهم بعضاً، وحاكمية بعضهم في بعض.
وفي هذا الترتيب إشعار أيضاً بمراتب النظر في معرفة الله تعالى، فإن الناظر يعلن بادئ ذي بدء بأن له رباً بسبب ما يشعر به من وجود نفسه، ونعمة تركيبه، ثم يتغلغل في النظر، فيشعر بأن ربه هو الملك الحق، الغني عن الخلق، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة، فهو إله الناس كلهم. (التحرير والتنوير، 30 /554)
أي: قل يا محمد: استجير برب الناس، فخصهم بالذكر لأنهم المستعيذون، والرب: الذي يسوسهم ويرعاهم ويدبر أمورهم، وهو ملكهم الذي يتصرف فيهم بالأمر والنهي، فهم تحت قدرته، وهو إلههم المستحق للعبادة دون سواه. (تفسير جزء عم للشيخ مساعد الطيار، ص78)
وإنما قال: {رب الناس} مع أنه رب جميع مخلوقاته؛ للدلالة على شرفهم، ولكون الاستعاذة وقعت من شر ما يوسوس في صدورهم. (فتح القدير، 5/642)
يبين عبد الكريم الخطيب أن تخصيص الناس بالاستعاذة منهم، وفي جعل هذا في سورة خاصة بهم تسمى سورة «الناس» ـ في هذا إشارة إلى أن الناس، من بين المخلوقات التي يعرفونها، هم الذين يفعلون الشر، بما ركب فيهم من إرادة عاملة، قادرة على أن تتجه نحو الخير، أو الشر، فكل مخلوق ـ فيما يرى الإنسان ويعلم ـ قائم على فطرة، لا يتحول عنها، ولا يأخذ طريقاً غير طريقها الذي أقامها اللّه سبحانه وتعالى عليه.
ومن هنا، ترى المخلوقات جميعها، التي تعايشنا على هذه الأرض تحكمها طبيعة واحدة، في كل جنس من أجناسها، أو نوع من أنواعها.
ومن هنا كان من الممكن رصد الشرور الناجمة من بعض الحيوان، والعمل على توقّيها، وأخذ الحذر منها، فإنه إذا عرف الشرّ أمكن توقّيه، وسدّ المنافذ التي ينفذ منها، وليس كذلك الإنسان، فكل إنسان عالم وحده، له وجوده الذاتي، وله عقله، وإدراكه، وتصوراته، ومنازعه، وخيره، وشرّه، وهيهات أن يلتقي إنسان مع إنسان لقاء مطابقاً في الوجوه جميعها، ظاهراً وباطناً، ولهذا فإنه لا يمكن رصد شرور الناس، بل إنه لا يمكن رصد شرّ إنسان واحد، ولا رسم الحدود التي يقف عندها، ومن هنا كانت الاستعاذة من الناس، على هذا الوجه الخاص؛ لأن الشرور التي تقع منهم، بل من أيّ واحد منهم، كثيرة لا تحصى، متعددة متنوعة، لا تحصر، ولعل هذا هو بعض السر في تكرار لفظ «الناس» ثلاث مرات في مطلع السورة، فهم ليسوا ناساً وحسب، بل هم ناس، وناس، وناس، إنهم في مجموعهم أخيار، وأشرار، وخليط من أخيار وأشرار، وهم في أفرادهم: خير، وشر، وخليط من الخير والشر، فالإنسان يحسن، ويسيء، ويقف موقفاً بين الإساءة والإحسان. (التفسير القرآني للقرآن، 3 /203-205)
الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {الْوَسْوَاسِ} إِذَا وُلِدَ خَنَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، ذَهَبَ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ اللَّهُ ثَبَتَ عَلَى قَلْبِهِ.(صحيح البخاري)
وخنس المولود أي نخسه وطعنه في خاصرته، والوسواس هو الشيطان، سمي به لكثرة ملابسته الإنسان ووسوسته له، والخناس لأنه يخنس، أي يتقهقر ويتأخر عند ذكر الله تعالى. (صحيح البخاري وتعليق د. مصطفى ديب البغا، 4 /1904)
يبين ابن جزي أن الوسواس مشتق من الوسوسة، وهي الكلام الخفي، فيحتمل أن يكون الوسواس بمعنى الموسوس، فكأنه اسم فاعل، والوسواس من أسماء الشيطان، ويحتمل أن يكون مصدراً، وصف به الموسوس على وجه المبالغة، أو على حذف مضاف تقديره ذي الوسواس. وقال الزمخشري: إنما المصدر وسواس بالكفر، والخناس معناه الراجع على عقبه، المستمر أحياناً، وذلك متمكن في الشيطان، فإنه يوسوس فإذا ذكر العبد الله، وتعوذ به منه تباعد عنه، ثم رجع إليه عند الغفلة عن الذكر، وهو يخنس في تباعده، ثم في رجوعه بعد ذلك. (التسهيل لعلوم التنزيل، 3 /379)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ
يبين ابن جزي كذلك أن وسوسة الشيطان في صدر الإنسان تكون بأنواع كثيرة، منها: إفساد الإيمان والتشكيك في العقائد، فإن لم يقدر على ذلك أمره بالمعاصي، فإن لم يقدر على ذلك ثبطه عن الطاعات، فإن لم يقدر على ذلك أدخل عليه الرياء في الطاعات ليحبطها، فإن سلم من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه، واستكثار عمله، ومن ذلك أنه يوقد في القلب نار الحسد والحقد والغضب، حتى يقود الإنسان إلى شر الأعمال، وأقبح الأحوال، وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء: واحدها الإكثار من ذكر الله. وثانيها الإكثار من الاستعاذة بالله منه، ومن أنفع شيء في ذلك قراءة هذه السورة. وثالثها مخالفته والعزم على عصيانه، فإن قيل لم قال في صدور الناس ولم يقل في قلوب الناس؟ فالجواب أن ذلك إشارة إلى عدم تمكن الوسوسة، وأنها غير حالة في القلب، بل هي محومة في الصدر حول القلب. (التسهيل لعلوم التنزيل، 3 /379-380)
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
جاء في التفسير الحديث أن وسوسة الإنس تكون بما يحاوله ويقوم به ذوو الأخلاق السيئة والسرائر الفاسدة من إغراء و إغواء وإيحاء وتلقين بالشرور والمنكرات والبغي، وإقامة العثرات في سبيل الخير والصلاح والحق والبر.
أما وسوسة الجنة، فالمقصود منها كما هو المتبادر أيضاً وسوسة تلك العناصر الخفية التي توسوس في صدور الناس، وتغريهم بالشر والفساد والمنكرات والبغي والكفر وعبادة غير اللّه، وجحود نعمته. وتزينه لهم، وتمنعهم عن الإيمان والخير والمعروف والبر، والتي سماها القرآن بأسماء إبليس وجنوده وذريته وقبيله، والشيطان والشياطين، مما هو مستفيض في فصول القرآن المكية والمدنية استفاضة تغني عن التمثيل. وروح الآيات تلهم أن السامعين يعرفون ما يفعله الوسواس الخناس من الجنة والناس. (التفسير الحديث، ص788)
أعاذنا الله من شر الوسواس الخناس، كما استعاذ منه نبينا الأسوة محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
4 ربيع الآخر 1447هـ

تاريخ النشر 2025-09-26
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس