عَنِ الْبَرَاءِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ مَا وَلَّى النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ، فَلَقِيَهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ، وَالنَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ". (صحيح البخاري،كتاب الجهاد والسير، باب بغلة النبي، صلى الله عليه وسلم، البيضاء)
المبادئ السامية العظيمة يحملها المؤمنون بها كما تحمل الأرض جبالها الراسية على ظهرها، والتي لا يؤثر على شموخها ضراوة الرياح العاتية، ولا العواصف الهائجة، وكذلك المبادئ التي تحضنها القلوب المؤمنة بها تبقى شامخة شموخ الجبال، مهما بلغت قسوة المحن التي تواجه حامليها، والجراح التي تدميهم، والأنبياء، عليهم السلام، جميعاً، ضربوا أمثالاً مشرفة نضرة في هذا الجانب، وخاتمهم محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي توجد مؤكدات كثيرة تدل على أن إصراره، صلى الله عليه وسلم، على المبدأ لم تزعزعه النوائب، وفي السطور الآتية إشارات إلى عينة من تلك المؤكدات.
"أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ"
حديث البراء أعلاه يتضمن مشهداً مقتبساً من أحداث معركة حنين، التي أنزل الله فيها قرآناً يتلى، فقال عز وجل: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} (التوبة:25-26)
الشاهد من حدث حنين العظيم هنا أن الأرض لما ضاقت بما رحبت على المسلمين يومه، وولى سرعان الجند الحاضرين، وكانوا في المجمل كثرة غير معهودة في طرف المسلمين، حتى إن الله تعالى أشار إليها بقوله: {أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} وعبر عن الإعجاب بها بعض جند المسلمين بقولهم: "لن نُغْلَبَ اليوم من قلة". وفي المحصلة لم تنفع الكثرة، وحدثت الوقيعة، وضاقت الأرض على المسلمين بما رحبت، وعلى الرغم من ذلك كله، ثبت الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأكد في هذا الموقف العصيب إصراره على المضي في دعوته، بقوله: "أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ" ولم يسمح للجراح لتنال من إيمانه وعزيمته وإصراره.
فثبت صلّى اللّه عليه وسلّم، في هذا الموقف العصيب، ومعه أبو بكر وعمر وعليّ والعباس، وعدد قليل من الصحابة، رضي الله عنهم، وكان صلّى اللّه عليه وسلّم، على بغلته الشهباء ثابتاً يقاتل، ويقول: "أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ" (التفسير الواضح، 1 /872)
وفي هذا الموقف الكريم درس للمؤمنين في كل مكان وحين، يتأكد من خلاله أن المبادئ التي تُحمل بصدق لا تزول حتى في ظروف وأحوال لو ضاقت فيها الأرض على أصحابها بما رحبت.
ويمكن استنباط المزيد من الدروس والعبر من حديث البراء أعلاه، منها ما ذكره المهلب: أن فيه جواز الأخذ بالشدة والتعرض إلى الهلكة في سبيل الله؛ لأن الناس فروا عن رسول الله، صلّى اللّه عليه وسلّم، ولم يبق إلا مع اثني عشر رجلاً، والمشركون في أضعافهم عددًا مرارًا كثيرة، فلزموا مكانهم ومصافهم، ولم يأخذوا برخصة الفرار.
وفيه ركوب البغال –وسائل النقل الحربي- في الحرب للإمام ليكون أثبت له، ولئلا يظن به الاستعداد للفرار والتولية، ومن باب السياسة لنفوس الأتباع؛ لأنه إذا ثبت، ثبت أتباعه، وإذا رئي منه العزم على الثبات عزم معه عليه.
وفيه جواز الفخر والندابة عند القتال.
وفيه إثبات النبوة ؛ لأنه قال: "أنا النبي لا كذب". أي: ليس أنا بكاذب فيما أقول؛ فيجوز عليّ الانهزام، وإنما ينهزم من ليس على يقين من النصرة، وهو على خوف من الموت، والنبي، صلى الله عليه وسلم، على يقين من النصر بما أوحى الله إليه في كتابه، وأعلمه أنه لا بد له من كمال هذا الأمر، فمن زعم بعد هذا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ينهزم فقد رماه بأنه كذب وحي الله، أن الله يعصمه من الناس، وهذا زعم باطل يفضي إلى الكفر، والعياذ بالله. (شرح صحيح البخاري لابن بطال، 5 /69، بتصرف)
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
عملاً بنهج التربية على التمسك بالمبادئ، ينهى الله جل في علاه نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، عن القبول بمداهنة المكذبين لدعوته، فقال عز وجل: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ* وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم:8-9)
فهذا نهي عن الاستماع للمكذبين، الذين يكذبون بآيات اللّه، ويقفون منه هذا الموقف الضال الآثم، وفي قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} بيان للمدخل الخبيث، الذي يريد المشركون أن يدخلوا على النبي، صلى الله عليه وسلم، منه، وأن يخادعوه به، فهم وقد أبوا أن يستجيبوا للنبي، صلى الله عليه وسلم، وأعياهم الوعد والوعيد معه أن يحوّلوه عن موقفه، يجيئون إليه بتلك الدعوة الخبيثة الماكرة، وهو أن يدهن أي يدارى أمره عنهم، فلا يذكر آلهتهم بسوء، ولا يظهر دعوته في الناس، وبذلك يتركونه وشأنه، فلا يعرضون له بسوء، ولا يلقونه بأذى!!
وأصل الإدهان: المداراة، والملاطفة، وطلاء الأمر بطلاء زائف، حتى يقبل تحت هذا الزيف، وقوله تعالى: {فَيُدْهِنُونَ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم، أي فهم يدهنون، والمعنى، فلا تطع المكذبين، فهم يدهنون، وودوا لو تدهن، وهذا يعني أن المشركين المكذبين هم على حال من الخديعة والغش فيما يقولون، فهم يدهنون مع أنفسهم، فيخادعونها بهذا الباطل الذي يزينونه لها، وهم يدهنون مع الناس فيما يحدثونهم به، وهم يدهنون مع النبي، صلى الله عليه وسلم، فيما يعرضون عليه من أمور، وهذا شأن كل من يمسك بالباطل، إنه غير مطمئن إليه، فهو يحاول دائماً أن يلبسه أثواباً بعد أثواب، من التمويه والخداع، حتى يدارى ما به من علل. (التفسير القرآني للقرآن، 2 /124-125)
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
التمسك الصارم للرسول، صلى الله عليه وسلم، بالمبدأ أرسى أسسه الله جل في علاه، بتوجيهات وأوامر تربوية وجهها له ولأمته من بعده، فمنعه من القبول بطريقة المداهنة مع الكافرين، وألزمه برفض تبادل المشاركة مع الكافرين في عبادة الله وغيره، كما هو واضح في سورة "الكافرون" بصياغتها المحكمة، وتأكيداتها الجزلة، حيث يقول جل شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ* وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون:1-6)
الخطاب الذي طُلب من النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يوجهه إلى الكافرين في هذه السورة الكريمة، هو لكفرة مخصوصين قد علم الله تعالى أنه لا يتأتى منهم الإيمان أبداً، روي أن رهطاً من عتاة قريش قالوا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، فرفض الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذا العرض، وأمره الله أن يقول لهم: {لا أعبد ما تعبدون} أي فيما يستقبل؛ لأن "لا" لا تدخل غالباً إلا على مضارع في الاستقبال، كما أن "ما" لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال، والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي، {ولا أنا عابد ما عبدتم} أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، أي لم يعهد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته. وقيل: هاتان الجملتان لنفي العبادة حالاً، كما أن الأولين لنفيها استقبالاً، وإنما لم يقل ما عبدت ليوافق ما عبدتم؛ لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام، وهو، عليه الصلاة والسلام، لم يكن حينئذ موسوماً بعبادة الله تعالى، وقيل إن قوله تعالى: {ولا أنا عابد ما عبدتم} تأكيد لقوله تعالى: {لا أعبد ما تعدبون} وقوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} ثانياً تأكيد لمثله المذكور أولاً.
وقوله تعالى: {لكم دينكم} تقرير لقوله تعالى: {لا أعبد ما تعبدون} وقوله تعالى: {ولا أنا عابد ما عبدتم} كما أن قوله تعالى: {ولي دين} تقرير لقوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} والمعنى أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم، لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضاً، كما تطمعون فيه، فلا تعلقوا به أمانيكم الفارغة، فإن ذلك من المحالات، وأن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي، لا يتجاوزه إلى الحصول لكم أيضاً، لأنكم علقتموه بالمحال الذي هو عبادتي لآلهتكم، ولأن ما وعدتموه عين الإشراك. (تفسير أبي السعود، 9 /206-207)
فصاحب المبدأ لا ينزاح عن حمل ما آمن به، ونافح عنه بفعل مغريات من هنا، أو بطش من هناك، بخلاف المتملق، فإنه يتذبذب، ويتقلب، والله وصف حال المنافقين المترددين والمتقلبين في حمل المبادئ، فقال تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء:143)، والإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول:
لا خير في ود امرئٍ متملّقٍ حلو اللسان وقلبهُ يتلهّبُ
يلقاك يحلف أنهُ بكَ واثقٌ وإذا توارى منك فهو العقربُ
يعطيك من طرف اللسان حلاوةٍ ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ
سائلين الله العلي القدير أن يهدينا لخير الهدى، وأن يعيننا على التمسك الدائم بمبادئنا، وأن يربط على قلوبنا لنبقى على ذلك ما حيينا ونموت عليه، على نهج نبينا الأسوة محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
20 ربيع الأول 1447هـ