.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

اصطفاه الله من بني هاشم - الحلقة الثالثة

==========================================================

يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء:152)
بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، ومتابعة للحديث عن اصطفاء النبي، صلى الله عليه وسلم، من بني هاشم، ولدحض أي فهم خاطئ قد ينشأ عن الإخبار عن هذا الاصطفاء من نسب عريق، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى جانب ذكره لشرف نسبه، لم يدع أحداً للتمسك بمعيار الأنساب دون الأعمال، فالعبرة في النهاية تكون للأعمال، التي تقدم بدورها صاحبها عند الله أو تؤخره، وقد وقفت الحلقة السابقة عند مبدأ المفاضلة بين الناس بناء على معيار التقوى، وإن كانت لغيرها كالأنساب اعتبارات، إلا أنها تتنحى جانباً عن الصدارة في التميز لصالح التقوى، وتم التأكيد على الإقرار بهذا المبدأ في مناسبات ومواقف كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لم يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)(صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر)، فاصطفاء النبي، صلى الله عليه وسلم، من نسب عريق ينبغي أن يتم التدبر فيه من زوايا عدة، فهو يذكر على سبيل منزه عن منهج التفاخر والتعالي على الناس، وإنما يذكر محفوفاً بمنظومة قيم الإسلام وشريعته، التي من مبادئها أن أكرم الناس عند الله أتقاهم، وأن الأخيار في الْجَاهِلِيَّةِ أخيار في الْإِسْلَامِ إذا فقهوا، وأن يوم القيامة لَا أَنسَابَ بين الناس، بل يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وقرابته، ولا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الإيمان بالرسل والأنبياء دون تفريق بينهم
يخلط بعض الناس في فهم المواقف الدينية، ويقع بالخطأ من يركز على جانب من القضايا دون جوانبها الأخرى، فالأصل السليم أن تتبلور المواقف بعد النظر في الحيثيات كلها ذات الصلة، ويتعلق باصطفاء النبي، صلى الله عليه وسلم، من نسب عريق، قضايا وموضوعات ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار والدراسة حتى لا يقع أحد في فهم خاطئ، أو مغالاة مرفوضة شرعاً، فنسب النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يحدث خللاً في عقيدة الإيمان بالرسل والأنبياء، فالإيمان به وإياهم، عليه وإياهم الصلاة والسلام، من أركان الإيمان التي تقوم عليها عقيدة الإسلام، فيلزم المسلم بالإيمان بالأنبياء والمرسلين الذين ثبتت لهم النبوة أو الرسالة الربانية، وقد أمر الله بالأخذ بهذا الإيمان من لدنه سبحانه، فقال تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:84)، وقال سبحانه: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:136)، وأخبر جل شأنه عن هذا الإيمان بقوله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(البقرة:285)
وأثنى عز وجل على الذين لا يفرقون بين الرسل، ووعدهم بالأجور الحسنة، كما في الآية 152 من سورة النساء المثبت نصها أعلاه، وسبق هذه الآية بآية في السورة نفسها وصف بالكفر للذين يفرقون في الإيمان بين رسل وآخرين، ووعيد لهم بالعذاب المهين، فقال عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} (النساء:150-151)
فعراقة نسب النبي، صلى الله عليه وسلم، لم تفصل المسلم عن إيمانه بالرسل والأنبياء جميعاً، فلا يقبل منه إنكار لنبوة أحد منهم، أو رسالة أحد من المرسلين، عليهم الصلاة والسلام.
غرور إبليس بخيرية خلقته
الارتكاز للمزايا الخَلْقِية أو النسبية ينبغي أن يكون ضمن حدود ما شرع الله، وحين يكون الطغيان في بعض جوانب هذا الارتكاز، يكون الشطط، ومن النماذج التي تجلى فيها مثل هذا الشطط البغيض بوضوح، غرور إبليس بخيرية خلقته، الذي دفعه للمعصية، ونيل سخط الله، وعن هذا الغرور يقول عز وجل: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف:12)، ويقول سبحانه على لسان إبليس: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (ص:76)
فالملائكة أطاعوا الله، وسجدوا لآدم استجابة لأمر الله، ولم يتذرعوا بالرفض بأي سبب، بينما الشيطان الذي يمتثل لمنهجه كثير من الخلق، اختار درب المعصية، فرض الانصياع لأمر الله متذرعاً بأصل الخلقة التي تميز بها، وهكذا يتعالى بعض الناس على الآخرين لانتسابهم لعائلة معينة تتمتع بصفات القوة والجاه، كما في مثل الرجل الذي ضربه الله في سورة الكهف، فقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً* كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً* وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} (الكهف:32-34)
فاصطفاء النبي، صلى الله عليه وسلم، من نسب عريق لم يختلط بحال من الأحوال بأي منهج منحرف، فكان طاهراً نقياً من انحراف إبليس، ومن أي خلل غروري يمكن أن تجول به الخواطر والتصورات السلبية المنبعثة من مجموعة المزايا التي خص الله بها بعض خلقه.
فهذه متابعة أخرى لمسائل ذات صلة باصطفاء الله النبي، صلى الله عليه وسلم، من بني هاشم، سائلين الله العلي القدير أن يوفق للوقوف عند مزيد منها لاستلهام العبر والعظات التي يؤمل أن تعزز إيماننا وحبنا لنبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
14 ربيع الأول 1445هـ

تاريخ النشر 2023-09-29
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس