.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

اصطفاه الله من بني هاشم - الحلقة الثانية

==========================================================

عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، (قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ من أَكْرَمُ الناس؟ قال: أَتْقَاهُمْ، فَقَالُوا: ليس عن هذا نَسْأَلُكَ؟ قال: فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابن نَبِيِّ اللَّهِ، ابن نَبِيِّ اللَّهِ، ابن خَلِيلِ اللَّهِ، قالوا: ليس عن هذا نَسْأَلُكَ، قال: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِ؟ خِيَارُهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ، خِيَارُهُمْ في الْإِسْلَامِ إذا فَقُهُوا) (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} (النساء: 125)
بمناسبة قرب حلول ذكرى المولد النبوي الشريف وقفت الحلقة السابقة عند ميزة مهمة من مزايا النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، تتعلق بنسبه العريق، الذي يعود لبني هاشم، والذين يعودون بدورهم لقريش، المتجذرة من كنانة، والتي بدورها يرجع نسبها إلى ولد إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، فالله جل جلاله اصطفى نبينا محمداً، صلى الله عليه وسلم، من هذا النسب الشريف، ومعنى الاصطفاء هنا ليس باعتبار الديانة، بل باعتبار الخصال الحميدة، فعليه الصلاة والسلام كإخوانه الرسل الآخرين بعث وإياهم في نسب أقوامهم، كما جاء في قول هرقل عظيم الروم لأبي سفيان بن حرب خلال تعقيبه على إجابة أبي سفيان عن نسب النبي، صلى الله عليه وسلم، والذي أفاد بأنه ذو نسب، فعقب هرقل لاحقاً على هذه الإجابة بقوله: (فكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا) (صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم) وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يوم الْقِيَامَةِ) (سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة بني إسرائيل، وصححه الألباني)، والسيد هنا هو الذي يفوق قومه في الخير، أو هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد، فيقوم بأمرهم، ويتحمل عنهم مكارههم، ويدفعها عنهم. ولم يقل صلى الله عليه وسلم ذلك فخراً، بل صرح بنفي الفخر في بعض الروايات كما في سنن الترمذي، فقال: (أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يوم الْقِيَامَةِ ولا فَخْرَ). (سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة بني إسرائيل، وصححه الألباني)
أكرم الناس عند الله أتقاهم
اعتزاز النبي، صلى الله عليه وسلم، بنسبه العريق لم يتعالى به على الخلق، ولم يحرف نظره عن الحقائق الواقعية والتاريخية، ولم يدفعه إلى حصر التركيز على الأنساب في المفاضلة بين الخلق، فلما ذكر نسبه قال: (ولا فخر) ولما سئل عن أكرم الناس كما في حديث أبي هريرة المثبت نصه أعلاه، قال: (أتقاهم) وهذه الإجابة تتماشى تماماً مع مبدأ المفاضلة بين الناس المقرر من رب العالمين، حيث يقول جل شأنه: {... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)
فالعبرة الأولى والأساس تكون للتقوى في المفاضلة العادلة بين الناس، وإن كانت لغيرها كالأنساب اعتبارات إلا أنها تتنحى جانباً عن الصدارة في التمييز لتترك للتقوى، والنبي، صلى الله عليه وسلم، أكد على الإقرار بهذا المبدأ في مناسبات ومواقف كثيرة، منها قوله: (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لم يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) (صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر)، وبهذا يضع الإسلام الأمور دائماً في نصابها الصحيح بتوازن فذ، دون مغالاة في جانب على حساب جوانب أخرى، أو تجاهل للحقائق، وفي مسألة الأنساب والأعمال ذكر الرسول، صلى الله عليه وسلم، شرف نسبه، لكنه لم يدع أحداً للتمسك بمعيار الأنساب دون الأعمال، فالعبرة في النهاية تكون للأعمال، التي تقدم بدورها صاحبها عند الله أو تؤخره، فسحب البساط من تحت المتمركزين حول التباهي بالأنساب، وتركه متاحاً للذين تقدمهم فضائل أعمالهم للتربع على عرش الخيرية عند الله، وقرب هذا المعنى والمغزى لذهنية المسلمين، لما وضعهم أمام درس عملي وتطبيقي أوصلهم في نهايته بأسلوب تشويقي مفعم بالإثارة التعليمية، بهدف ترسيخ المعنى، وحمل المستهدفين لتمثله في سلوكهم وحياتهم ومواقفهم، فعن سَهْلٍ قال: مَرَّ رَجُلٌ على رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما تَقُولُونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إن خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قال أَنْ يُسْتَمَعَ. قال: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ من فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فقال: ما تَقُولُونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إن خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قال أَنْ لَا يُسْتَمَعَ. فقال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (هذا خَيْرٌ من مِلْءِ الأرض مِثْلَ هذا) (صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين)
الأخيار في الْجَاهِلِيَّةِ أخيار في الْإِسْلَامِ إذا فقهوا
لما سأل الصحابة، رضي الله عنهم، الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الحديث أعلاه، عن أَكْرَم الناس، قاصدين معادن العرب، بين لهم بأن الأخيار في الْجَاهِلِيَّةِ يحتفظون بمرتبة الخيرية في ميزان الإِسْلَامِ إذا فقهوا، ومن دلالات هذا البيان النبوي، أنه لم يتغافل عن العراقة الموروثة، ولكن اشترط لاستمرارية فضلها ومكانتها أن تقترن بتمثل عقيدة الإسلام وشريعته وقيمه وأخلاقه، وقد جاء في عمدة القاري، أنهم لما سألوا عن أكرم الناس، أخبر بأكرم الكرام، فقال أتقاهم؛ لأن المتقي كبير في الآخرة، فلما قالوا لا نسألك عنه، قال: يوسف نبي الله، الذي جمع بين الدنيا والآخرة، فلما قالوا ما قالوا فهم أن مرادهم قبائل العرب وأصولهم. (عمدة القاري، 15/277)
وفيه أن قوله: (فعن معادن العرب؟) أي أصولهم التي ينسبون إليها، ويتفاخرون بها، وإنما جعلت معادن لما فيها من الاستعدادات المتفاوتة، فمنها قابلة لفيض الله على مراتب المعدنيات، ومنها غير قابلة له، وشبههم بالمعادن لأنهم أوعية للعلوم، كما أن المعادن أوعية للجواهر النفيسة، وإنما قيد بقوله: (إذا فقهوا) والحال أن كل من أسلم، وكان شريفاً في الجاهلية، فهو خير من الذي لم يكن له الشرف فيها؛ لأن المعنى ليس على ذلك، فإن الوضيع العالم خير من الشريف الجاهل، والعلم يرفع كل من لم يرفع، وقوله: (فقهوا) بكسر القاف، معناه إذا فهموا وعلموا. (عمدة القاري، 15/245)
فاصطفاء النبي، صلى الله عليه وسلم، من نسب عريق ينبغي أن يتم التدبر فيه من زوايا عدة، فهو يُذْكر على سبيل منزه عن منهج التفاخر والتعالي على الناس، ويُذْكر كذلك محفوفاً بمنظومة قيم الإسلام وشريعته، التي من مبادئها أن أكرم الناس عند الله أتقاهم، وأن الأخيار في الْجَاهِلِيَّةِ أخيار في الْإِسْلَامِ إذا فقهوا، وأن يوم القيامة لَا أَنسَابَ بين الناس، بل يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وقرابته، ولا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فهذه متابعة لمسائل ذات صلة باصطفاء الله النبي محمد، صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، سائلين الله العلي القدير أن يوفق للوقوف عند مزيد منها لاستلهام العبر والعظات التي يؤمل أن تعزز إيماننا وحبنا لنبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
7 ربيع الأول 1445هـ

تاريخ النشر 2023-09-22
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس