.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

بعثه الله ليبتليه ويبتلي به - الحلقة الثالثة

==========================================================

يخاطب الله نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، قائلاً: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(المائدة:67)
أكدت الحلقة السابقة أن الابتلاء بالقتل وغيره قدر مكتوب، حسب ما نصت عليه آيات قرآنية كثيرة، ومنها الآية الكريمة الحادية والخمسون من سورة التوبة، التي يأمر فيها رب العزة الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يبلغ بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وبما أن الابتلاء جزء مما يصيب الناس، فهو قدر مكتوب، مع التأكيد على أن اليقين بكتابة الابتلاء لا يتناقض مع لزوم السعي والعمل، ولا تناقض بين اليقين بكتابة الابتلاء، وبذل الجهد لرفعه والتقليل من تداعياته وآثاره، فالقدر المكتوب حتم لازم، لكنه غير مكشوف للخلق، ويبقى مخفياً حتى تقع الوقائع والحوادث، والناس عليهم السعي وبذل الجهد، والنتائج تبقى قدراً مقدراً، فالمكتوب ليس منه مهروب، ولو صبر القاتل على المقتول لمات حتف أنفه، ولو كان الناس في حصونهم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، والإيمان بالقدر لا يعني الاستسلام للكسل وترك العمل، فأمر الله سبحانه بالمشي في الأرض طلباً للرزق.
انتصار الله لرسوله، صلى الله عليه وسلم
الآية الكريمة السابعة والستون من سورة المائدة، المثبت نصها أعلاه، يطمئن فيها سبحانه نبيه، صلى الله عليه وسلم، إلى انتصاره له، فيقول عز وجل: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فالله يطمئن النبي، صلى الله عليه وسلم، بأنه سيحفظه، وينصره، ويؤيده على أعدائه، ويظفره بهم، فلا ينبغي له أن يخاف، ولا أن يحزن، فلن يصل أحد منهم إليه بسوء يؤذيه.(تفسير ابن كثير:2/79)
وأجاب الرازي عن تساؤل حول التوفيق بين هذه الطمأنة الموعودة، وبين ما روي أنه عليه الصلاة والسلام، شج وجهه يوم أحد، وكسرت رباعيته، وذلك من وجهين:
- أحدهما أن المراد يعصمه من القتل، وفيه التنبيه إلى أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء.
- وثانيها أنها نزلت بعد يوم أحد.
والمراد من {النَّاسِ} هاهنا الكفار، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} في الآية أعلاه من سورة المائدة، ومعناه أنه تعالى لا يمكنهم مما يريدون.(التفسير الكبير:12/42-43)
وفي بداية الأمر بعد الهجرة أحب النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يكون له من أصحابه من يحرسه، فعن عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قالت: (كان النبي، صلى الله عليه وسلم، سَهِرَ، فلما قَدِمَ الْمَدِينَةَ، قال: لَيْتَ رَجُلًا من أَصْحَابِي صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ، إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلَاحٍ، فقال: من هذا؟ فقال: أنا سَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ، جِئْتُ لِأَحْرُسَكَ، وَنَامَ النبي، صلى الله عليه وسلم)(صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله)، وبعد تعهد الله بحمايته من الناس، استغنى عليه الصلاة والسلام، عن حراسة البشر، فعنها رضي الله عنها: (كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يُحْرَسُ حتى نَزَلَتْ هذه الْآيَةَ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ من الناس} فَأَخْرَجَ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، رَأْسَهُ من الْقُبَّةِ، فقال لهم: يا أَيُّهَا الناس انْصَرِفُوا، فَقَدْ عَصَمَنِي الله)(سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، وحسنه الألباني)
شواهد لانتصار الله لرسوله، صلى الله عليه وسلم
كثيراً ما أكد القرآن الكريم على حقيقة انتصار الله لرسوله، صلى الله عليه وسلم، فعدا عن التعهد بحمايته من الناس، بين سبحانه أنه كفاه صلى الله عليه وسلم، كيد المستهزئين وشرهم، فقال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}(الحجر:95).
ولما هاجر النبي، صلى الله عليه وسلم، ولحقه المطارِدُون ليفوزوا بجائزة قريش التي أعلنتها لمن يقبض عليه، أكد سبحانه انتصاره للنبي، صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:40)
وفي حديث عِيَاضِ بن حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ- سالف الذكر- أوضح الله جل في علاه لنبيه محمدٍ، صلى الله عليه وسلم، أنه لن يتركه لأذى قريش وعدوانها، بل سينتصر له منهم، فيحدث عليه الصلاة والسلام: (وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فقلت: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي، فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، قال: اسْتَخْرِجْهُمْ كما اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مثله، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ من عَصَاكَ...)
قوله: (وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا) كناية عن القتل.(كشف المشكل:4/244)
وقوله: (فقلت: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي، فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً) أي يشدخوه ويشجوه، كما يشدخ الخبز؛ أي يكسر. وقوله تعالى: (واغزهم نغزك) بضم النون، أي نعينك.( صحيح مسلم بشرح النووي:17/198)
جاء في مرقاة المفاتيح أن الله قال لنبيه، صلى الله عليه وسلم: (اسْتَخْرِجْهُمْ) أي قريشاً، والمراد كفارهم (كما اسْتَخْرَجُوكَ) أي كإخراجهم إياك جزاء وفاقاً، وإن كان بين الإخراجين بون بيِّن، فإن إخراجهم إياه بالباطل، وإخراجه إياهم بالحق (وَاغْزُهُمْ) أي وجاهدهم (نُغْزِكَ) بضم النون، من أغزيته إذا جهزته للغزو، وهيأت له أسبابه (وَأَنْفِقْ) أي ما في جهدك في سبيل الله (فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ) أي نخلف عليك بدله في الدنيا والأخرة، قال تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(سبأ:39)، وفيه وعد وتسلية (وَابْعَثْ جَيْشًا) أي أرسل أنت جيشاً كبيراً وصغيراً (نَبْعَثْ خَمْسَةً مثله) أي مقدار خمسة مثله، والمعنى نبعث من الملائكة خمسة أمثال تعينهم، كما فُعِلَ ببدر، قال تعالى: { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}(آل عمران:125)، وكان المشركون يومئذ ألفاً والمسلمون ثلاثمائة (وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ) أي بمعونته، أو معه (من عَصَاكَ) أي بعدم الإيمان بك.(مرقاة المفاتيح:8/3369، بتصرف)
فعلى الرغم من أن الابتلاء مقدر من الله، إلا أنه سبحانه يعين عليه من آمن وصبر واحتسب، وهو القائل سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(الحج:38-39)
ودفاع الله عن المؤمنين ونصرهم يستند إلى مبدأ أرساه سبحانه بقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}(محمد:11)
راجين أن يوفق الله تعالى إلى متابعة الوقوف عند مزيد من معاني ومحاور حديث عِيَاضِ بن حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، المثبت نصه في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
29 شوال 1444هـ

تاريخ النشر 2023-05-19
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس