يقول الله تعالى في سورة محمد: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}(محمد:31)
وقفت الحلقة السابقة عند طمأنة الله سبحانه نبيه، صلى الله عليه وسلم، إلى انتصاره له، فقال عز وجل: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي سيحفظه وينصره ويؤيده على أعدائه، وتمت الإشارة إلى استغناء النبي، صلى الله عليه وسلم، عن حراسة البشر بعد ما أوحى الله إليه بتكفل حمايته من الناس، وتم التذكير ببعض الشواهد لانتصار الله لرسوله، صلى الله عليه وسلم، فعدا عن الوعد بأن الله سيعصمه من الناس، بين سبحانه أنه كفاه كيد المستهزئين وشرهم، ولما هاجر ولحقه المطاردون ليفوزوا بجائزة قريش التي وعدتها لمن يقبض عليه، أكد سبحانه انتصاره للنبي، صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:40)
وفي حديث عِيَاضِ بن حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أوضح الله جل في علاه لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، أنه لن يتركه لأذى قريش وعدوانها، بل سينتصر له منهم، فيحدث عليه الصلاة والسلام: (وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فقلت: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي، فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، قال: اسْتَخْرِجْهُمْ كما اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مثله، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ من عَصَاكَ...)(صحيح مسلم، كتاب الجنة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار)
فعلى الرغم من أن الابتلاء مقدر من الله، إلا أنه سبحانه يعين عليه من آمن وصبر واحتسب، وهو القائل سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(الحج:38-39)
ودفاع الله عن المؤمنين ونصرهم يستند إلى مبدأ أرساه سبحانه بقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}(محمد:11)
الابتلاء للتمحيص
الآية القرآنية الكريمة الحادية والثلاثون من سورة محمد المثبت نصها أعلاه، تفصح عن غاية رئيسة للابتلاء، فالله يبتلي المؤمنين ليكشف عن المجاهدين منهم، جاء في أضواء البيان أن الله جل وعلا يختبر الناس بالتكاليف، كبذل الأنفس والأموال في الجهاد، ليتميز بذلك صادقهم من كاذبهم، ومؤمنهم من كافرهم.(أضواء البيان:7/384)
ومن الآيات القرآنية الكريمة التي تؤكد هذه المعاني، قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214)
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(آل عمران:142)
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(التوبة:16)
وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت:2-3)
وقوله عز وجل: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ...}(آل عمران:179)
فهذه الآيات الكريمة تشترك في إبراز الغاية من الابتلاء، وتتلخص في فرز الصادقين من غيرهم.
ابتلاء الأخبار
وفي الآية أعلاه أيضاً نص على ابتلاء الأخبار، حيث يقول جل شأنه: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) يبين الرازي أن هذا القول يحتمل وجوهاً:
أحدها: قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}(البقرة:8) لأن المنافق وجد منه هذا الخبر، والمؤمن وجد منه ذلك أيضاً، وبالجهاد يعلم الصادق من الكاذب، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحجرات:15)
وثانيها: إخبارهم من عدم التولي في قوله: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدْبَارَ}(الأحزاب:15) إلى غير ذلك، فالمؤمن وفّى بعهده، وقاتل مع أصحابه في سبيل الله، كأنهم بنيان مرصوص، والمنافق كان كالهباء ينزعج بأدنى صيحة.
وثالثها: المؤمن كان له أخبار صادقة مسموعة من النبي، عليه الصلاة والسلام، كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}(الفتح: 27) {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}(المجادلة:21) و{ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}(الصافات:173) وللمنافق أخبار أراجيف، كما قال تعالى في حقهم: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ}(الأحزاب: 60)، فعند تحقق الإيجاف يتبين الصدق من الإرجاف.(التفسير الكبير:28/62، بتصرف)، والإيجاف: سرعة السير.(لسان العرب: 9/352)
تبشير الصابرين على الابتلاء المحتسبين المسترجعين
توعد الله المؤمنين بأنواع مختلفة من الابتلاءات، فقال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ...}(البقرة:155)، والصابرون الذين ينجحون في اختبارات الابتلاء، فيصبرون ويحتسبون يبشرهم الله بصلوات منه سبحانه ورحمة، ويشهد لهم بالهداية، فيقول جل شأنه: {...وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة:155-157) يبين صاحب التسهيل لعلوم التنزيل، أن الصبر على أربعة أوجه، صبر على البلاء، وهو منع النفس من التسخيط والهلع والجزع، وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان وعدم التكبر بها، وصبر على الطاعة، بالمحافظة عليها والدوام، وصبر عن المعاصي، بكف النفس عنها.
وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخيط ظاهراً، وترك الكراهة باطناً، وفوق التسليم الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب محبوب.(التسهيل لعلوم التنزيل:1/65)
وصلوات الله على عبده عفوه ورحمته وبركته، وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيداً، وهي من أعظم أجزاء الصلاة منه تعالى، وشهد لهم بالاهتداء.(المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز:1/228)
فهذه إشارات لجوانب من قضايا الابتلاء، تعلقت بكونه للتمحيص، وابتلاء الأخبار، وتبشير الصابرين على الابتلاء المحتسبين المسترجعين، راجين أن يتحقق النفع والخير من التذكير بها، وبخاصة من قبل المبتلين بالصعاب والمحن، حيث كانوا ووجدوا.
ونسأله سبحانه أن يوفق إلى متابعة الوقوف عند مزيد من معاني حديث عِيَاضِ بن حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ المثبت نصه في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، وما يرشد إليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
6 ذو القعدة 1444هـ