.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

بلَّغه الله قول أخيه نوح لقومه: { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِله وَقَارًا } - الحلقة الأولى

==========================================================

يقول الله تعالى على لسان نبيه نوح، عليه السلام: { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا*وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}(نوح:13-14)
آيتان قرآنيتان ألفظاهما محدودة، لكنهما تعبران عن معان عظيمة، أوردهما الله جل في علاه على لسان نبيه نوح، عليه السلام، خلال محاورته الدعوية لقومه، ولأهميتهما أثبتهما الله في ثنايا إحدى السور القرآنية التي أنزلها على نبيه المصطفى، عليه الصلاة والسلام، لاستنباط العظات والعبر منهما، فالقرآن الكريم عني بالإخبار عن مثل هذه المحاورة التي كانت تتم بين أنبيائه، عليهم السلام، وأقوامهم، ولم يكن المقصود من هذا الإيراد الإخبار ونقل المعلومة والتسلية فحسب، بل تخدم مثل هذه المقاطع والردود والمناقشات هدف الدعوة الذي سعى إلى تحقيقه خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم، على نهج إخوانه النبيين والمرسلين، ويتلخص في هداية المدعوين للحق والنور، وإنقاذهم من الضلال، فالقرآن بكلماته وآياته وقصصه يهدف لتحقيق الغاية التي أخبر عنها منزله سبحانه، حيث يقول جل شأنه: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(المائدة:16) والهداية المرجوة من دعوة الإسلام تتوافق مع الهداية الراسخة التي سعى لتحقيقها في الناس الرسل من قبل، عليهم السلام، والتي جاء الإسلام ليحققها كذلك، والله تعالى يقول: {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}(الأحقاف:30) ويؤكد سبحانه هذا النهج بقوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}(النور:34)
فالقول المذكور في الآيتين الكريمتين أعلاه والمنسوب إلى نوح، عليه السلام، له دلالته الدعوية، ما يستدعي الوقوف عنده، واستخلاص العبر والعظات منه، وعلى الرغم من مضي قرون على النطق به، إذ ما زالت الحاجة ماسة لتدبره لخدمة جانب مهم من جوانب الدعوة إلى الإسلام، وهو الجانب العقائدي التأملي المبصر.
أقوال في معنى الرجاء والوقار والأطوار
جاء في التفسير أن قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}؟ يعني ما لكم لا تخافون لله عظمة في التوحيد؟ وقال قتادة: ما لكم لا ترجون لله عاقبة؟ ويقال: ما لكم لا ترجون عاقبة الإيمان؟ يعني: في الجنة.
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} يعني: خلقاً بعد خلق، وحالاً بعد حال، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة. فمعناه: ما لكم لا توحدون، وقد خلقكم ضروباً؟ ويقال: أراد به اختلاف الأخلاق والمنطق، ويقال أراد به المناظرة.(تفسير السمرقندي= بحر العلوم:3/500)
ويبين الواحدي أن الرجاء هاهنا بمعنى: الخوف، والوقار: العظمة، اسم من التوقير وهو التعظيم، والمعنى: لا تعلمون حق عظمته فتوحدوه، وتطيعوه، وقد جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده؛ من خلقه إياكم، ومن خلق السماوات والأرض، قال ابن الأنباري: الطور: الحال، وجمعه أطوار، وتلا هذه الآية.(تفسير الوسيط للواحدي: 4/358)
وذكر الماوردي خمسة تأويلات لهذه الآية الكريمة:
- أحدها: ما لكم لا تعرفون للَّه عظمة.
- الثاني: لا تخشون للَّه عقاباً، وترجون منه ثواباً.
- الثالث: لا تعرفون للَّه حقه، ولا تشكرون له نعمه.
- الرابع: لا تؤدون للَّه طاعة.
- الخامس: أن الوقار الثبات، ومنه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}(الأحزاب: 33) أي اثبتن، ومعناه لا تثبتون وحدانية اللَّه، وأنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه.
قال ابن بحر: دلهم على ذلك فقال: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} في وجهين:
- أحدهما: يعني طوراً نطفة، ثم طوراً علقة، ثم طوراً مضغة، ثم طوراً عظماً، ثم كسونا العظام لحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر: أنبتنا له الشعر، وكملت له الصورة، قاله قتادة.
- الثاني: أن الأطوار اختلافهم في الطول والقصر، والقوة والضعف، والهم والتصرف، والغنى والفقر. ويحتمل ثالثاً: أن الأطوار اختلافهم في الأخلاق والأفعال.(تفسير الماوردي=النكت والعيون:6/101-102)
الجزء الأول من السياق الذي ورد فيه قول نوح لقومه: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}
سورة نوح مكية، وعدد آياتها ثمان وعشرون، وقول نوح، عليه السلام لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} مثبت في الآية الثالثة عشرة منها، وقد جاء في صفوة التفاسير أن القرآن أفرد قصة نوح، عليه السلام، في سورة نوح، من بدء الدعوة إِلى نهايتها، حيث أهلك الله قومه بالطوفان، وهو أحد الرسل الكبار من أولي العزم، وهم خمسة «نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، محمد» صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد شاع الكفر في زمانه وذاع، واشتهر قومه بعبادة الأوثان، وأكثروا من البغي والظلم والعصيان، فبعث الله لهم نوحاً، عليه السلام، وكان من خبرهم معه ما قصه الله علينا في القرآن: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} أي فقال لهم: اعبدوا الله وحده، واتركوا محارمه، واجتنبوا مآثمه، وأطيعوني فيما أمرتكم به من طاعة الله، وترك عبادة الأوثان والأصنام {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي إنكم إن فعلتم ما أمرتكم به، يمحو الله عنكم ذنوبكم التي اقترفتموها، وإنما قال {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي بعض ذنوبكم التي حصلت قبل الإِسلام، لأن الإِيمان يَجُب ما قبله من الذنوب لا ما بعده {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ويمد في أعماركم إن أطعتم ربكم، إلى وقت مقدر ومقرر في علم الله تعالى، مع التمتع بالحياة السعيدة، والعيش الرغيد، قال المفسرون: المراد بتأخير الأجل هو التأخير بلا عذاب، أي يمهلهم في الدنيا دون عذاب إلى انتهاء آجالهم، وأما العمر فهو محدود، لا يتقدم ولا يتأخر { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}(الأعراف: 34) ولهذا قال بعده: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} أي إن عمر الإِنسان عند الله محدود، لا يزيد ولا ينقص، وإنما أضيف الأجل إلى الله سبحانه لأنه هو الذي كتبه وأثبته، {لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتم تعلمون ذلك لسارعتم إلى الإِيمان.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} أي قال نوح، عليه السلام، بعد أن بذل غاية الجهد، وضاقت عليه الحيل: يا رب إِني دعوت قومي إلى الإِيمان والطاعة في الليل والنهار، من غير فتور ولا توانٍ {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} أي فلم يزدهم دعائي لهم إلى الإِيمان إلا هرباً، وشروداً عن الحق، وإعراضاً عنه.
ثم وصف نفورهم وصور إعراضهم أبلغ تصوير، فقال: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} أي كلما دعوتهم إلى الإِقرار بوحدانية الله والعمل بطاعته، ليكون سبباً في مغفرة ذنوبهم، {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا دعوتي، {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أي غطوا رؤوسهم ووجوههم بثيابهم، لئلا يسمعوا كلامي أو يروني.
قال في البحر: والظاهر أن ذلك حقيقة، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إِليه، وتغَطَّوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه، كراهة وبغضاً من سماع النصح ورؤية الناصح، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن المبالغة في إعراضهم عمَّا دعاهم إليه، فهم بمنزلة من سد سمعه، ومنع بصره.
{وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} أي واستمروا على الكفر والطغيان، واستكبروا عن الإِيمان استكباراً عظيماً، وفيه إشارة إلى فرط عنادهم، وغلوهم في الضلال، {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} أي دعوتهم علناً على رؤوس الأشهاد، مجاهراً بدعوتي لهم دون خوف أو تحفظ، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} أي أخبرتهم سراً وعلناً، خفيةً وجهراً، وسلكت معهم كل طريق في الدعوة إِليك.
قال المفسرون: والعطف بـ (ثُمَّ) يُشعر بأن الإِعلان والإِسرار الأخيرين، كانا طريقة ثالثة سلكها نوح في الدعوة، غير طريقة السر المحضة، وغير طريقة الجهر المحضة، فكان في الطريقة الثالثة يعلن لهم الدعوة مرة حيث يصلح الإِعلان، ويسرها لهم أخرى حيث يتوقع نفع الإِسرار، ثم وضح ما وعظهم به سراً وعلانية، فقال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} أن آمنوا بالله وتوبوا عن الكفر والمعاصي، فإن ربكم تواب رحيم، يغفر الذنب ويقبل التوب، {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} أي ينزل المطر عليكم غزيراً متتابعاً، شديد الانسكاب، {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أي يكثر أموالكم وأولادكم، {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} أي ويجعل لكم الحدائق الفسيحة، ذات الأشجار المظلمة المثمرة، ويجعل لكم الأنهار تجري خلالها.
أطمعهم نوح، عليه السلام، بالحصول على بركات السماء وبركات الأرض، إن هم آمنوا بالله الذي بيده مفاتح هذه الخزائن، وأتاهم من طريق القلب لتحريك العواطف، ولبيان أن ما هم فيه من انحباس الأمطار، وما حرموه من الرزق والذرية، إنما سببه كفرهم بالله الذي بيده وحده إرسال المطر، وإِغداق الرزق، والإِمداد بالأموال والبنين، وأنه لا ينبغي لهم أن يكفروا بهذا الإِله القادر، ويعبدوا آلهة أخرى اخترعوها، لا تضر ولا تنفع.
ثم عاد فهزَّ نفوسهم هزاً، وعطفها نحو الإِيمان بأسلوب آخر من أساليب البيان، فقال: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} أي ما لكم أيها القوم لا تخافون عظمة الله وسلطانه، ولا ترهبون له جانباً! قال ابن عباس: أي ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته، {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} أي وقد خلقكم في أطوار مختلفة، وأدوار متباينة، طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، إلى سائر الأحوال العجيبة، فتبارك الله أحسن الخالقين.(صفوة التفاسير:3/427-428)
فهذه وقفة مع قول نوح، عليه لسلام، لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} شملت ذكراً لأقوال في معنى الرجاء والوقار والأطوار، وعلاقة هذا الذكر بمنهج الدعوة العقائدي التأملي المبصر، الذي سلكه النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، أيضاً في الدعوة إلى الإيمان والإسلام، وتخلل هذه الوقفة كذلك تدبر لمقطع من السياق الذي ورد فيه هذا القول لنوح، عليه السلام، في سورة نوح، على أمل استكمال التأمل فيما بقي من هذا السياق في الحلقة القادمة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، خاتم النبيين، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
2 ذو القعدة 1445هـ

تاريخ النشر 2024-05-10
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس