.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

بلَّغه الله قول أخيه نوح لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِله وَقَارًا} - الحلقة الثالثة والأخيرة

==========================================================

يقول الله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(الحج:74)
وقفت الحلقة السابقة عند الجزء الثاني من السياق الذي ورد فيه قول نوح، عليه السلام، لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} ونوح، عليه السلام، بعد أن وجه قلوب متلقي دعوته نحو الإِيمان بقوله ذاك، نبههم إلى أن دلائل القدرة والوحدانية، منبثة في هذا الكون الفسيح، واستدل بآيات دالة على عظمة الخالق سبحانه، وهي تؤكد استقباح عدم توقيره سبحانه وتعظيمه، حسب ما دل عليه هذا التساؤل، وبعد أن قابله قومه بأقبح الأقوال والأفعال، وبالغوا في تكذيبه، وتحريضهم على أذيته، وأضل كبراؤهم خلقاً وناساً كثيرين، بما زينوا لهم من طرق الغواية والضلال، انتهى به الموقف إلى أن قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} أي لا تترك أحداً على وجه الأرض من الكافرين، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} أي أنك إن أبقيت منهم أحداً، أضلوا عبادك عن طريق الهدى، ولا يأتي من أصلابهم إلا فاجر وكافر.
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...}
دل موقف قوم نوح، عليه السلام، المتنكر لدعوته السوية، على أنهم لم يرجوا لله وقاراً، ويشبه التساؤل الذي طرحه عليهم حول هذه السلبية منهم: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} الخلاصة الدالة على الجحود التي أشار إليها رب العالمين في ثلاث سور قرآنية، هي: الأنعام والزمر والحج، حسب المبين في قوله عز وجل في الآية الكريمة الرابعة والسبعين من سورة الحج، المثبت نصها أعلاه، ومعنى قوله عز وجل: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموا الله حق عظمته، حين أشركوا به غيره ولم يوحدوه، ويقال: ما وصفوه حق صفته، ويقال: ما عرفوه حق معرفته كما ينبغي.
وقال ابن عباس: (نزلت الآية في يهود المدينة، حين قالوا: خَلَقَ السموات والأرض فِي ستة أيام، ثم استلقى فاستراح، ووضع إحدى رجليه على الأخرى) فنزل: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} في أمره، {عَزِيزٌ} منيع في ملكه، ومعبودهم لا قوة له ولا منفعة. ويقال: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على عقوبة من جعل له شريكاً، عَزِيزٌ للانتقام منهم. (تفسير السمرقندي= بحر العلوم:2/470-471)
يقول الرازي عند قوله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شريكة له في المعبودية، وهذه الكلمة مفسرة في سورة الأنعام، وهو قوي لا يتعذر عليه فعل شيء، وعزيز لا يقدر أحد على مغالبته، فأي حاجة إلى القول بالشريك.(تفسير الرازي=مفاتيح الغيب:2/252)
والآية الكريمة من سورة الأنعام المشار إليها آنفاً، هي قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}(الأنعام:91) مع التذكير هنا بأن سورة الأنعام غالب آياتها المائة وخمس وستين مكية، والآية 91 منها مدنية، قال مقاتل: سورة الأنعام كلها مكية غير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: سورة الأنعام كلها مكية غير ست آيات، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الثلاث وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ...}(تفسير السمرقندي= بحر العلوم:1/433)
وورد مثل هذا الذم للذين لم يعظموا االله حَقَّ تَعْظِيمِهِ، في سورة الزمر في قوله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(الزمر:67)
ثمار توقير الله وتعظيمه وتقديره
التوقير الذي ذم الله متجاهلي التحلي به تجاهه سبحانه من خلقه، عند تحققه يترك بصمات إيمانية، وثمار يانعة في أصحابه وقلوبهم وسلوكهم، وتشهد لهذا آيات قرآنية عديدة، منها الآيات الثلاث التي تلت الآية الأولى من سورة الأنفال، إذ يقول عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(الأنفال:2-4)
يبين الواحدي في تفسيره أن قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ} تأويله: إذا ذكرت عظمة الله وقدرته وما خوف به من عصاه فزعت قلوبهم، يقال: وجل يوجل فهو وجل، إذا خاف، فالمؤمن الذي إذا خوف بالله فرق قلبه، وانقاد لأمره خوفاً من عقابه، وفيه إشارة إلى إلزام أصحاب بدر بطاعة الرسول، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما يرى من قسمة الغنائم.
وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} قال ابن عباس: تصديقاً ويقيناً، والمعنى: أنهم يصدقون بالأولى والثانية والثالثة، وكل ما يأتي من عند الله فيزيد تصديقهم.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} قال ابن عباس: يتقون لا يرجون غيره، ثم زاد في وصفهم، فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}..الآية، ثم حقق لهم الإيمان، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} قال ابن عباس: برئوا من الكفر، وقال مقاتل: أولئك هم المؤمنون لا شك في إيمانهم كشك المنافقين.
{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال عطاء: يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم.
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يعني: ما أعد الله لهم في الجنة.(تفسير الوسيط للواحدي:2/444)
وأشير إلى بعض هذه الثمار في ثلاث آيات من سورة الحج، فقال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(الحج:35)
ويقول جل شأنه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}(الحج:32)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَعَائِرُ اللَّهِ الْبُدْنُ وَالْهَدْيُ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْإِشْعَارِ، وَهُوَ إِعْلَامُهَا لِيُعْرَفَ أَنَّهَا هَدْيٌ، وَتَعْظِيمُهَا اسْتِسْمَانُهَا وَاسْتِحْسَانُهَا، وَقِيلَ: شَعَائِرُ اللَّهِ أَعْلَامُ دِينِهِ.
{فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أَيْ: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.(تفسير البغوي:3/339)
ويقول سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(الحج:30)
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ} فيجتنب معاصيه، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ.
قال ابن زيد: الحرمات: المشعر الحرام والبيت الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام، وقيل: هي المناسك.(تفسير الثعلبي=الكشف والبيان عن تفسير القرآن:7/18)
سبب رئيس وجوهري لتوقير المؤمن ربه وتعظيمه وتقديره
سلوك المؤمن يختلف عمن سواه، ومن الأسباب الإيمانية الرئيسة والجوهرية التي تؤثر في خلق ثمار الإيمان وتعزيز وجودها وتقوية دورها، الإيمان برقابة الله الدائمة للعبد، فهو محوط بملكين يرصدان سكناته وحركاته، أقواله وأفعاله، مصداقاً لقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(ق:18) وهو يؤمن بيقين جازم أن شيئاً من باطنه وعلانيته لن يخفى على الله، وهو القائل سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(المجادلة:7) فكيف لمن يؤمن بهذه الحقائق الإيمانية أن يحيد عن تعظيم الله وتوقيره، في أمره كله، وأحواله جميعها؟؟!!
فالمؤمن يوجل قلبه لذكر الله، ويرتعد خشية لله، ويذكر الله في ليله ونهاره، عند قوته وضعفه، لأنه يوقن بوجود الله وصفاته وأسمائه الحسنى، فيوقره لأنه القادر، ويخشاه لأنه العالم، ويرجو رحمته، ويخاف غضبه وسخطه وعقابه؛ لأنه ذو الجلال والإكرام.
وتوقير الله غاية ربانية بينها سبحانه في كتابه العزيز، فخاطب نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، قائلاً: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفتح: 8-9)، يبين الشوكاني أن معنى {تُعَزِّرُوهُ}: تعظّموه وتفخّموه، والعزيز: التَّعْظِيمُ وَالتَّوْقِيرُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَنْصُرُوهُ وَتَمْنَعُوا مِنْهُ، وقال عكرمة: تقاتلون مَعَهُ بِالسَّيْفِ، وَمَعْنَى {تُوَقِّرُوهُ}: تُعَظِّمُوهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تسوّدوه، وقيل: الضَّمِيرَانِ فِي الْفِعْلَيْنِ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُنَا وَقْفٌ تَامٌّ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ {وَتُسَبِّحُوهُ}، أَيْ: تُسَبِّحُوا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أَيْ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَقِيلَ: الضَّمَائِرُ كُلُّهَا فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَكُونُ مَعْنَى تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ: تُثْبِتُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ، وَتَنْفُونَ عَنْهُ الشُّرَكَاءَ، وَقِيلَ: تَنْصُرُوا دِينَهُ، وَتُجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ.(فتح القدير:5/56)
فالخير المترتب على توقير الله وتقديره، يقابل الذم والشر المترتبين على تجاهلهما أو مجانبتهما، وشتان بين الحالين، شتان بين المتوعد بالعذاب والعقاب الربانيين، وبين المنعم عليه بوجل القلب وتقواه، راجين التوفيق لنيل هذه النعمة، وأن نلقاه سبحانه ونحن نحافظ على التشبث بها، وشكر الله عليها، بخلاف الذين أنكر عليهم نوح، عليه السلام، لأنهم لم يرجوا لله وقاراً، وغيرهم من الناس في كل زمان ومكان ممن لا يقدروا الله حق قدره.
وبهذا القدر نختم الحديث عن قول نوح، عليه السلام، لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} سائلين الله العلي القدير أن ينفعنا بالتدبر بهذا القول الكريم، والاتعاظ منه، لنراعي توقير الله وتقديره وتعظيمه سبحانه، كما ينبغي لجلاله عز وجل، وكما عظمه حبيبه وخاتم أنبيائه نبينا محمد، صلى الله وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
16 ذو القعدة 1445هـ

تاريخ النشر 2024-05-24
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس