يقول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214)
وقفت الحلقة السابقة عند دَعَاء رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يوم الْأَحْزَابِ على الْمُشْرِكِينَ، بقوله: (اللهم مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللهم اهْزِم الْأَحْزَابَ، اللهم اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ)(صحيح البخاري،كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة) وفي هذا دليل على أن الدعاء سلاح إيماني لا يقل أثره عن العتاد المادي، ومما يؤكد هذا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان يلجأ إلى الدعاء في أحواله كلها، وبخاصة قبيل المواجهة مع الأعداء وأثنائها، كما كان من دعائه يوم بدر، ويوم الخندق، والدعاء سلاح استخدمه الأنبياء والصالحون من قبل، مصداقاً لقوله عز وجل:{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(آل عمران:146-147)، ومن ذلك أيضاً كان دعاء طالوت وجنده لما واجهوا جند الباطل بقيادة جالوت، إذ قَالُواْ: { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(البقرة: 250).
وبالنسبة إلى إجابة الله دعاء النبيين، فكانت فورية أحياناً، بدليل البدء بالحديث عنها عقب دعائهم بحرف الفاء، الذي يفيد في اللغة الترتيب والتعقيب، وبالطريقة نفسها كانت الاستجابة الربانية يوم بدر، فقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ}(الأنفال:9)، وليس شرطاً أن تكون إجابة الدعاء فورية، فالله يأمر بها وقت يشاء، وليس حسب عجلة الناس.
وقد صدق الله وعده في إظهار الدين، وكون العاقبة للمتقين، وغير ذلك من وعده سبحانه، فالله لا يخلف الميعاد، وهزم الأحزاب وحده؛ من غير قتال من الآدميين، كما في غزوة الأحزاب الذين اجتمعوا يوم الخندق، وتحزبوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها.
المس بالبأساء والضراء
تعرض المؤمنين للشدائد أمر ممكن الوقوع، وغالباً ما يكون ذلك تحت باب الابتلاء، وفي الآية 214 من سورة البقرة، المثبت نصها أعلاه، ما يدل على هذه الإمكانية، بل فيها إشارة إلى ما يوحي بحتمية ابتلاء المؤمنين لغاية تمحيص الصادقين منهم، وتأكدت حتمية الابتلاء للتمحيص في آيات قرآنية أخرى، منها قوله عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(العنكبوت:2) فالفوز بالجنة لا يتأتى للناس دون ثبوت صدق عقيدتهم وإيمانهم، وهذا الثبوت يظهر بجلاء عند التعرض للشدائد المزلزلة، فمن يثبت على الإيمان أمامها ويصبر ويحتسب، كما صبر الأولون ممن صدقوا العهد مع الله من الأمم السابقة، فله الجنة، ومن ينتكس وينكص على عقبيه فيخسرها.
ومن شدة الابتلاء الذي تعرض له الأقدمون أن الحال الصعب بلغ بهم أن يتساءلوا عن نصر الله، ويتشغفوا إليه، فكان رد الله فورياً بأن نصر الله قريب، ويبين الزمخشري أن معنى قوله تعالى:{أم حسبتم} أي ولما، فيها معنى التوقع، وهي في النفي نظيرة (قد) في الإثبات، والمعنى أن إتيان ذلك متوقع منتظر. وقوله: {مثل الذين خلوا) أي حالهم التي هي مثل في الشدة، و{مستهم} بيان للمثل، وهو استئناف، كأن قائلاً قال: كيف كان ذلك المثل؟ فقيل: مستهم البأساء، {وزلزلوا} وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة، بما أصابهم من الأهوال والأفزاع، {حتى يقول الرسول} إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها: {متى نصر الله} أي بلغ بهم الضجر، ولم يبق لهم صبر، حتى قالوا ذلك، ومعناه طلب الصبر وتمنيه، واستطالة زمان الشدة.
وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة، وتماديه في العظم؛ لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا، كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح وراءها. {ألا إن نصر الله قريب} على إرادة القول، يعني فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر.(الكشاف:1/283-284)
وما النصر إلا من عند الله
الحياة والموت والرزق، وكذلك النصر وأمور الخلق جميعاً، هي أقدار يقدرها الله، ولا تكون إلا كما يشاء سبحانه، والله ذكر أن النصر لا يكون إلا من عنده سبحانه في آيتين؛ الأولى في آل عمران، والأخرى في الأنفال، ومن اللافت للمتدبر أن الله ربط ذكر هذه الحقيقة الإيمانية في هاتين الآيتين مقترنة بالبشرى والطمأنة، فقال عز وجل: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(آل عمران:126) وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(الأنفال:10)
فمهما تعاظمت الشدائد التي يبتلى بها المؤمنون ينبغي أن لا يغيب عن وجدانهم حيالها بأن نصر الله لهم قريب، لكنه يكون في الوقت الذي يريده الله، وتأخر النصر من وجهة نظر بعض الناس ينبغي أن لا يدفع إلى التشكيك في حتمية كونه من عند الله العزيز الحكيم، ويلفت الرازي الأنظار إلى أن الغرض من قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} أن يكون توكلهم على الله، لا على الملائكة، وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب، والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب.(التفسير الكبير:8/189)
خاتمة
بهذه النفحات يرجى أن تتعزز الطمأنة إلى نصر الله الموعود للمؤمنين، فهو قريب قريب، وتتحقق به بشرى رب العالمين، مصداقاً لقوله جل جلاله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(الصف:13) وما أحوجنا إلى استشعار مثل هذه النفحات الإيمانية ونحن نعيش أجواء هذه الحرب الضروس، التي ارتقى جراءها آلاف الشهداء والأطفال والنساء، واستهدفت مساكن الآمنين والمساجد والكنائس والمشافي والمدارس والمخابز والشجر والحجر، فأحدثت دماراً واسعاً، ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، وهو سبحانه يمهل ولا يهمل، لكن أخذه شديد أليم، أخذ عزيز مقتدر، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولن تذهب أنات الثكالى لديه وصرخات الأطفال سدى، فهو سبحانه يسمعها ويبصرها، وسينتصر لها، طال الزمان أم قصر.
سائلين الله العلي القدير أن يحقن دماء أهلنا في غزة هاشم، وأن يبدل خوفهم أمناً، وأن ينصر ديننا، وأن يحق الحق بكلماته ونصره المؤزر، وأن يزهق الباطل، إنه كان زهوقاً، إنه سبحانه بالحال عليم، وهو ذو القوة المتين، وعلى كل شيء قدير، صدق وَعده، وَنصر عَبْده، وَهَزَم الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، وصلى الله وسلم على رسولنا محمد وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
12 ربيع الآخر 1445هـ