.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

حمد الله أن صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ - الحلقة الثانية

==========================================================

عن عَبْد اللَّهِ بن أبي أوفي، رضي الله عنهما، يقول: (دَعَا رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يوم الْأَحْزَابِ على المُشْرِكِينَ، فقال: اللهم مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللهم اهْزِمْ الْأَحْزَابَ، اللهم اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ) (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة)
تعرضت الحلقة السابقة للتنبيه بأن الاسترشاد بالهدي النبوي عند اتخاذ المواقف حول ما يجري في واقع الناس يؤمل أن تتحقق به الغلبة المنشودة، وتجاوز الصعاب العاتية التي تهدف إلى اقتلاعنا من جذورنا، كما كان يوم الأحزاب الذين تآلفوا واجتمعوا على اجتياح معقل الإسلام الأول يوم الخندق، الذي بقي على أثره كلما قَفَلَ من غَزْوٍ أو حَجٍّ أو عُمْرَةٍ، يُكَبِّرُ على كل شَرَفٍ من الأرض ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ويذكر بأن الله صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ونوهت الحلقة بذكر غزوة الأحزاب في القرآن الكريم، وكتب السيرة والسنة النبوية، ذاكرة حديثاً بهذا الشأن للصحابي حذيفة بن اليمان، وآخر للبراء، رضي الله عنهما.
دَعَاء رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يوم الْأَحْزَابِ على الْمُشْرِكِينَ
الإعداد المادي المطلوب لمواجهة الأعداء في ساحات الوغى، أمر الله به، فقال عز وجل: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (الأنفال:60) وفسر الرسول، صلى الله عليه وسلم، القوة المأمور بإعدادها هنا بالرمي، فقال: (وَأَعِدُّوا لهم ما اسْتَطَعْتُمْ من قُوَّةٍ، ألا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، ألا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، ألا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ) (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه)
أي إن الرمي هو العمدة، كررها ثلاثاً لزيادة التأكيد، أو إشارة إلى الأحوال الثلاث؛ من القلة والكثرة وبينهما، فإنها نافية في جميعها. (تحفة الأحوذي، 8/376)
والدعاء سلاح إيماني لا يقل أثره عن العتاد المادي، بدليل أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان يلجأ إليه في أحواله كلها، وبخاصة قبيل المواجهة مع الأعداء وأثنائها، ومن ذلك ما كان من دعائه يوم بدر، حسب ما روي عن عُمَر بن الْخَطَّابِ قال: (لَمَّا كان يَوْمُ بَدْرٍ، نَظَرَ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، إلى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثلاث مائة وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللهم أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللهم آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللهم إن تُهْلِكْ هذه الْعِصَابَةَ من أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ في الأرض. فما زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حتى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أبو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَه،ُ فَأَلْقَاهُ على مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ من وَرَائِهِ، وقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فإنه سَيُنْجِزُ لك ما وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ من الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال: 9)، فَأَمَدَّهُ الله بِالْمَلَائِكَةِ}) (صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم)
ومن دعائه، صلى الله عليه وسلم، ذاك المثبت في نص الحديث أعلاه، يوم الخندق، وفي عمدة القاري، أن قوله: (اللهم) يعني يا الله (يا منزل الكتاب) أي القرآن. وقوله: (سريع الحساب) يعني يا سريع الحساب، إما أن يراد به أنه سريع حسابه بمجيء وقته، وإما أنه سريع في الحساب. وقوله: (اهزمهم) أي اكسرهم وبدد شملهم، ويقال قوله: (اهزمهم وزلزلهم) دعاء عليهم أن لا يسكنوا، ولا يستقروا، ولا يأخذهم قرار. (عمدة القاري، 14/204)
ولم يكن لجوء الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى الدعاء، ومناشدة الله في الأزمات فريداً، بل استخدم سلاح الدعاء الأنبياء والصالحون من قبل، فالله تعالى يخبر عن ذلك فيقول: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 146-147)
وعن دعاء طالوت وجنوده، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:250)
وبالنسبة إلى إجابة الله دعاء النبيين، فكانت فورية أحياناً، بدليل البدء بالحديث عنها عقب دعائهم بحرف الفاء الذي يفيد في اللغة الترتيب والتعقيب، فقال عز وجل: {فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:148)، وبالطريقة نفسها، كانت الاستجابة الربانية يوم بدر، فقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال:9)
وليس شرطاً أن تكون إجابة الدعاء فورية، فالله يأمر بها وقت يشاء، ففي غزوة الأحزاب أشار الله إلى انتصاره للمؤمنين بقوله عز وجل: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً* وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} (الأحزاب: 25-27) فالرسول، صلى الله عليه وسلم، دعا على الأحزاب الذين اجتمعوا يوم الخندق بالهزيمة والزلزلة، فأجاب الله دعاءه فيهم. (عمدة القاري، 23/17)
والرسول، صلى الله عليه وسلم، لما طمأن المسلمين إلى حتمية انتصار الإسلام، نبههم إلى عجلة الناس، فقال: (والله لَيُتِمَّنَّ هذا الْأَمْرَ حتى يَسِيرَ الرَّاكِبُ من صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إلا اللَّهَ أو الذِّئْبَ على غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام)


صَدَقَ الله وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ
جاء في صحيح مسلم بشرح النووي، أن الله صدق وعده في إظهار الدين، وكون العاقبة للمتقين، وغير ذلك من وعده سبحانه، فالله لا يخلف الميعاد، وهزم الأحزاب وحده؛ من غير قتال من الآدميين، والمراد الأحزاب الذين اجتمعوا يوم الخندق، وتحزبوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، وبهذا يرتبط قوله صلى الله عليه وسلم: (صدق الله) تكذيباً لقول المنافقين، والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، هذا هو المشهور، أن المراد أحزاب يوم الخندق، قال القاضي: وقيل يحتمل أن المراد أحزاب الكفر في الأيام جميعها، والمواطن والله أعلم. (صحيح مسلم بشرح النووي، 9/113)
فهذه وقفة أخرى مع الحديث عن صدق الله وَعده، وَنصره عَبْده، وَهَزَمه الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فانتصار الله للحق أمر حتمي يقدره سبحانه كيف يشاء، ومتى يشاء، والله لا يعجل بعجلة الخلق، عسى أن ييسر الله متابعة الوقوف عند مزيد من متعلقات هذه القضية الإيمانية الوجدانية، التي على المسلمين أن يوطدوا إيمانهم بها، كونها معززة بأدلة قرآنية وواقعية كثيرة، وأقسم على الجزم بها رسولنا الهادي ونبينا الأسوة، حسب ما جاء عنه، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
5 ربيع الآخر 1445هـ

تاريخ النشر 2023-10-20
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس