يخاطب رب البرية نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، قائلاً: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}(الكهف: 28)
لغاية تدبر معاني وأبعاد نهي الله عز وجل لنبيه الأسوة، صلى الله عليه سلم، عن طاعة من أغفل قلبه عن ذكر الله، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، الوارد في مضامين هذه الآية الكريمة، وقفت الحلقة السابقة عند لزوم الطاعة مطلقةً لله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، ولزومها مقيدة لأولي الأمر، مع بيان أن الطاعة الواجبة تكون في الأحوال جميعها، ولا تخضع للمزاجيات والأهواء، وتم الاستشهاد بآيات قرآنية تعاضد ما تضمنته الآية القرآنية 28 من سورة الكهف المثبت نصها أعلاه، في النهي الصريح عن اتباع الغافلين عن ذكر الله، المتبعين للأهواء، المنحرفين عن جادة الحق.
النهي عن اتباع غافل القلب
ينهى الله رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، عن اتّباع غافلي القلوب، فيقول تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا...} يذكر الرازي في التفسير الكبير: أن هذا يدل على أن شر أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق، ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق، فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله، فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق، وإذا توجه القلب إلى الخلق، فقد حصل فيه الظلم والظلمة، بل الظلمات، فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق، وأقبل على الخلق، فهو الظلمة الخالصة التامة، فالإعراض عن الحق هو المراد بقوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} والإقبال على الخلق، هو المراد بقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}.(التفسير الكبير، 21/100(
ويقابل النهي عن اتباع الغافلة قلوبهم عن ذكر الله، الأمر بذكره سبحانه ليقابل بجزاء رباني من جنسه، مصداقاً لقوله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (البقرة:152)، وكما في الحديث القدسي، عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تَعَالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأنا معه إذا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي في ملأٍ ذَكَرْتُهُ في ملأٍ خَيْرٍ منهم، وَإِنْ تَقَرَّبَ إليّ بشبر، تَقَرَّبْتُ إليه ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إلي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إليه بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (صحيح البخاري)
النهي عن اتباع الهوى
ينهى الله رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، عن طاعة من اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً، يقول الشنقيطي صاحب أضواء البيان: إن معنى اتباعه هواه، أنه يتبع ما تميل إليه نفسه الأمارة بالسوء وتهواه من الشر، كالكفر، والمعاصي. وقوله: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} قيل: هو من التفريط، الذي هو التقصير، وتقديم العجز بترك الإيمان، وعلى هذا فمعنى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي كانت أعماله سفهاً وضياعاً وتفريطاً، وقيل: من الإفراط الذي هو مجاوزة الحد، كقول الكفار المحتقرين لفقراء المؤمنين، نحن أشراف مضر وساداتها، إن اتبعناك اتبعك جميع الناس، وهذا من التكبر والإفراط في القول، وقيل: {فرطاً} أي قدماً في الشر، من قولهم: فرط منه أمر، أي سبق، وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة عندي بحسب اللغة العربية التي نزل بها للقرآن، أن معنى قوله: {فرطاً}؛ أي متقدماً للحق والصواب، نابذاً له وراء ظهره، من قولهم: فرس فرط؛ أي متقدم للخيل.(أضواء البيان، 3/264-266)
درس من النواهي الربانية سالفة الذكر
المتدبر في النواهي الربانية، التي تضمنتها الآية الكريمة 23 من سورة الكهف، يلحظ أنها تسهم في بناء المنهج الرباني الذي ينبغي على المؤمنين بالقرآن الكريم أن يتبعوه في أحوالهم كلها، وأمورهم جميعها، في سلمهم وحربهم، حال ضعفهم وقوتهم، وعند رضاهم وغضبهم، فالحكم يجب أن يكون لله وحده، وهو الآمر سبحانه بذلك، حيث يقول عز وجل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(النساء:65) ولما يحدث تنازع أو خلاف بين أفراد أو فئات من الأمة الإسلامية، ينبغي رد الفصل فيه إلى شرع الله، عملاً بقوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(النساء:59)
فقضايا الأمة ومن أبرزها قضية احتلال فلسطين ومسرى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن يحدد المسلمون أمراء وعلماء وفئات موقفهم منها في ضوء شرع الله ودينه، حتى تستبعد مشاريع تصفيتها على مرأى منهم، أو بالتواطؤ من بعضهم، فالأمر يتعلق بأحكام شرعية واضحة جَليّة، يلزم العمل بمقتضاها والفتوى بموجبها، فهل من معتبر؟!
هدانا الله لحسن ذكره وشكره سبحانه، لنكون من الذاكرين لا من الغافلين، المنهي عن اتباعهم كما في الخطاب الرباني الكريم أعلاه الموجه لخير الأنام، نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أجمعين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
1 صفر 1442هـ