يقول الله تعالى:{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ...}(الفتح:29)
وقفت الحلقة السابقة عند الصفة الأولى من صفات أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حسب المتضمن في الآية القرآنية من سورة الفتح المثبتة جزء منها أعلاه، حيث تم التأمل بصفة المعية، {وَالَّذِينَ مَعَهُ}، وتم عرض آيات قرآنية ورد فيها ذكر المعية مطلقة، وأخرى ذكرت فيها مقترنة بالإيمان، ثم تم التعريج على معية المسلمين لنبيهم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، مع التنبيه المجمل لأهمية الصحبة الصالحة، وضرر الاتباع الأعمى وصحبة الضلال، ووفاء بالوعد نتابع التأمل بصفات المسلمين الواردة في الآية المذكورة أعلاه.
أشداء على الكفار
دين الإسلام الذي جاء به النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، عن ربه، هدى للعالمين، واجهته منذ بدأ حملة مضادة من الذين كفروا، وتفاوتت مستويات هذه الحملة المعادية بين الإنكار والسخرية ونصب المكائد تلو المكائد، والتأليب ضده، إلى درجة حمل السلاح ضده، ومحاولة اقتلاعه وأتباعه من الوجود، وإزاء ذلك كان لا بد من مواجهة موازية يتعاون فيها المسلمون أفراداً وجماعات على صد العدوان ضدهم، ومنع الشر من أن يقضي على وجودهم، أو يعطل دعوتهم للخير التي كلفوا بحملها، وتبليغها للعالمين، وحسب الوصف القرآني لخصائص محمد، عليه الصلاة والسلام، والذين معه، فإنهم:{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ...} أي لا تأخذهم في الله لومة لائم، ينافحون عن دينه، ولو كان الثمن تقديم أرواحهم قرابين لدينهم والذب عنه، يقول الزمخشري: المؤمنون كانوا يجاهدون لوجه الله، لا يخافون لومة لائم قط، وإنهم صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين، بإنكار منكر، أو أمر بمعروف، مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائم، يشق عليه جدهم في إنكارهم، وصلابتهم في أمرهم.(الكشاف:1/681)
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
من موافقات شدة المؤمنين على الكافرين، عزتهم عليهم، وفيها يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(المائدة:54)
وتفسير المراد بقوله تعالى:{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي يظهرون الغلطة والترفع على الكافرين، وقيل يعاونهم أي يغالبونهم، من قولهم عزه يعزه إذا غلبه، كأنهم مشدون عليهم بالقهر والغلبة.(التفسير الكبير:12/21-22)، وقال الطبري: ويعني بقوله {أعزة على الكافرين} أشداء عليهم، غلظاء بهم، من قول القائل: قد عزني فلان، إذا أظهر العزة من نفسه له، وأبدى له الجفوة والغلظة.(تفسير الطبري:6/286)
الغلظة مع الكافرين المعادين
لم تقتصر الآيات القرآنية على وصف المؤمنين حال تعاملهم مع الذين يعادونهم من الكافرين، بل تضمنت أوامر صريحة لهم بالغلظة معهم والقسوة عليهم، فالعين بالعين والبادئ أظلم، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(التوبة:123)
جاء في التفسير الكبير أن الغلظة بالكسر الشدة العظيمة، وهذه الآية تدل على الأمر بالتغليظ عليهم، ونظيره قوله تعالى:{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}(التوبة: 73)، وللمفسرين عبارات في تفسير الغلظة، قيل: شجاعة، وقيل: شدة، وقيل: غيظاً.
والغلظة ضد الرقة، وهي الشدة في إحلال النقمة، والفائدة فيها أنها أقوى تأثيراً في الزجر والمنع عن القبيح، ثم إن الأمر في هذا الباب لا يكون مطرداً، بل قد يحتاج تارة إلى الرفق واللطف، وأخرى إلى العنف، ولهذا السبب قال:{وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة البتة، فإنه ينفر، ويوجب تفرق القوم، فقوله:{وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} يدل على تقليل الغلظة، كأنه قيل: لا بد وأن يكونوا، بحيث لو فتشوا على أخلاقكم وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة، وهذا الكلام إنما يصح فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة، ومع ذلك فلا يخلو عن نوع غلظة.
وهذه الغلظة إنما تعتبر فيما يتصل بالدعوة إلى الدين، وذلك إما بإقامة الحجة والبينة، وإما بالقتال والجهاد، فأما أن يحصل هذا التغليظ فيما يتصل بالبيع والشراء والمجالسة والمؤاكلة فلا.(التفسير الكبير:16/182-183)
يرهبون عدو الله وعدوهم
من خصائص المؤمنين العاملين بأوامر ربهم، وأحكام دينهم، أنهم يعدون العدة لأعدائهم، ليرهبوهم بها، فقال عز وجل بالخصوص:{وَأَعِدُّوا لَهُم ما اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}(الأنفال:60)
فالمؤمنون متأهبون دائماً لحماية دينهم، والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولما تقضيه المواقف البذل من أرواحهم وأموالهم في سبيل الله، لا يتلكأون، ويلزم لهذا إعداد العدة النفسية والمعنوية والإيمانية والمادية اللازمة لأي مواجهة مع قوى الظلم والكفر والطغيان، وبغير هذا الوجه يفقدون هيبتهم، وتنهب خيراتهم، ويتجرعون كؤوس الذل والصغار، كأساً وراء آخر.
فحال المؤمنين مع أعدائهم يخلو من سبل الخنوع والتذلل ووضع الخاوات، وإنما هم أشداء معهم، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يقبلون الدنية لأنفسهم ولا لدينهم، ولو اقتضاهم ذلك بذل المهج والأرواح والدماء.
راجين الله أن ييسر لاحقاً، متابعة التأمل في الصفات القرآنية للمسلمين، حسب الوصف القرآني الوارد في الآية أعلاه، والذي يبين أن من خصائصهم أنهم أشداء على الكفار، هم ونبيهم صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
19 ذو القعدة 1441هـ