يقول الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً منَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ...}(الفتح:29)
وقفت الحلقة السابقة عند الصفة الرابعة من صفات النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، حسب المتضمن في الآية القرآنية من سورة الفتح المثبت جزء منها أعلاه، حيث تم التأمل بصفة: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} فمحمد، عليه الصلاة والسلام، والذين معه، يواظبون على الصلاة، ويكثرون من أدائها، وهي المشتملة على الركوع والسجود، اللذين لهما أهمية بالغة في جانب تقرب العابدين إلى الله تعالى، والعبد خلال سجوده لله يكون أقرب ما يكون من ربه سبحانه، فيكثر من الدعاء فيه، بالأدعية المأثورة وغيرها، وللطمأنينة في الركوع والسجود، أهمية خاصة، تنبغي مراعاتها، مما يستدعي تأديتهما بتؤدة وطمأنينة، ليتذوق الراكع والساجد حلاوة التواصل مع الله فيهما، مرات ومرات في اليوم والليلة.
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً
من ضمن إشادة القرآن الكريم في الآية 29 من سورة الفتح بمحمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، أنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، في عبادتهم وأعمالهم وركوعهم وسجودهم ومواقفهم كلها، فمقاصدهم طاهرة نقية، تخلو من شوائب الشرك والنفعية والرياء، مبتغاهم نيل ثواب الله ورضوانه، لا يريدون من الناس جزاء ولا شكوراً، وقد وصف الله المنفقين منهم، فقال عز وجل على لسانهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}(الإنسان:9)
فتطلع محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، يسمو على الأهداف الدنيوية، ليستهدف الفوز برضوان الله والجنة، بخلاف الأكثرين من الناس، الذين ينصب حرصهم على تحصيل حظوظ من الدنيا، تبدو زاهية لناظريها، وللمؤمنين مواقف تعبر عن تطلعهم المميز هذا، فحين تعرض عليهم أثمان مادية باهظة لصدقة قصدوا الله بها، يصرحون بأنهم تلقوا أرباحاً مضاعفة عما يعرض عليهم من البشر، قاصدين من ذلك طبعاً الجزاء المضاعف للحسنات من رب العالمين.
وبهذا الصدد، أثنى الله على ابتغاء المهاجرين فضلاً من الله ورضواناً، فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً منَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحشر: 8)
يريدون وجهه
عبّر القرآن الكريم عن إخلاص النوايا من قبل الثلة المؤمنة، بأنهم يريدون وجه الله في أقوالهم وأعمالهم ومواقفهم، فقال عز وجل: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...}(الأنعام: 52)
وورد التنبيه إلى هذه الصفة الجليلة من صفات الذين آمنوا مع نبيهم، صلى الله عليه وسلم، في سياق خطاب مشابه، للنبي، صلى الله عليه وسلم، دعي فيه إلى أن يُصَبر نفسه مع المبتغين لفضل الله، فقال عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...}(الكهف: 28)، فالله يحث نبيه، صلى الله عليه وسلم، على أن يصبر نفسه، مع العاملين لدينه، ابتغاء مرضاة ربهم، كما في الآية السالفة من سورة الأنعام، التي نهى الله فيها نبيه، صلى الله عليه وسلم، عن طرد الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، فبين الآيتين أكثر من قاسم مشترك، حيث العناية فيهما موجهة للذين يريدون وجه الله، والخطاب فيهما موجه للنبي، صلى الله عليه وسلم.
آثار تترتب على ابتغاء فضل من الله ورضوان
نهى الله عن التعرض بالأذى لقاصدي البيت الحرام، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ...}(المائدة: 2)
وفسر هنا الفضل بالربح في التجارة، والرضوان الرحمة في الدنيا والآخرة.(التسهيل لعلوم التنزيل، 1/167)
فهل بناء على هذه الآية الكريمة تكون لغير المسلمين الذين يبتغون شكلاً من أشكال فضل الله ورضوانه حرمة؟
يفصل الرازي في تفسير الفضل والرضوان، فيذكر أن فيهما وجهين: الأول يبتغون فضلاً من ربهم بالتجارة المباحة لهم في حجهم، كقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً من ربّكُمْ} (البقرة: 198)، قالوا: نزلت في تجاراتهم أيام الموسم، والمعنى لا تمنعوهم، فإنما قصدوا البيت لإصلاح معاشهم ومعادهم، فابتغاء الفضل للدنيا، وابتغاء الرضوان للآخرة، قال أهل العلم: إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله، وإن كانوا لا ينالون ذلك، فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة.
والوجه الثاني، أن المراد بفضل الله الثواب، وبالرضوان أن يرضى عنهم، وذلك لأن الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرضوان، لكنه يظن أنه بفعله طالب لهما، فيجوز أن يوصف بذلك بناءً على ظنه، وتعرض الرازي لاختلاف الناس حول هذا الحكم المتضمن في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: هذه الآية منسوخة؛ وقال آخرون من المفسرين: إنها غير منسوخة.(التفسير الكبير 11/102-103)
فابتغاء الفضل من الله والرضوان، من مكارم الكرام، وعلى رأسهم محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، راجين الله سبحانه أن ييسر متابعة التأمل في صفات المسلمين، حسب الوصف القرآني الوارد في الآية أعلاه، والذي منه الثناء الرباني عليهم كونهم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً، إضافة إلى كونهم ركعاً سجداً، يواظبون على ذلك، وأنهم رحماء بينهم، أشداء على الكفار، هم ونبيهم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
24 ذو الحجة 1441هـ