يقول الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ...}(الفتح:29)
وقفت الحلقة السابقة عند الصفة السادسة من صفات النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، حسب المتضمن في الآية القرآنية من سورة الفتح، المثبت معظمها أعلاه، حيث تم التأمل بصفة: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} فمحمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه الركع السجود، تظهر على وجوههم علامات السجود، وقد قيل في تفسير هذه الصفة أقوال، من أظهرها، أنها الأثر الذي يحدث في جبهة المصلي من كثرة السجود، وقيل: إنها السمت الحسن، وقيل: الخشوع والتواضع، وقيل: إن الصلاة تحسن وجوههم، ويعضد هذا قول بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار.
وتضمنت الحلقة كذلك شواهد نصية على تعبير ظواهر الجسد عن مكنوناته، فكما أن وجود علامات في وجوه الساجدين تكون من أثره، ففي آيات قرآنية إشارات إلى علامات محمودة، وأخرى مذمومة تظهر على أجزاء من جسد الإنسان، معظمها متعلق بما سيكون يوم القيامة، وبعضها يتعلق بأحوال الخلق في الدنيا أيضاً، فالله تعالى أخبر أن في يوم القيامة تظهر علامة السواد أو البياض على وجوه الخلق، بحسب ما أسلفوا في دنياهم، ويعبر انفسار الوجوه وعبوسها أيضاً عن أحوالها، وهناك دلالات تظهر على العيون توحي بالمضمر من أفعال أصحابها، كخائنة الأعين المشار إليها في قوله جل شأنه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(غافر: 19)
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ
أشارت الآية 29 من سورة الفتح، إلى أن مثل النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والذين معه، في التوراة والإنجيل، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، جاء في تفسير أبي السعود، أن من نعوتهم الجليلة، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه، للإيذان بعلو شأنه، وبعد منزلته في الفضل، وقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ}؛ أي وصفهم العجيب الشأن، الجاري في الغرابة مجرى الأمثال، {فِي التَّوْرَاةِ} حال من مثلهم، {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ} عطف على مثلهم الأول، كأنه قيل: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل، وتكرير مثلهم لتأكيد غرابته، وزيادة تقريرها، {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ... } تمثيل مستأنف، أي هم كزرع أخرج فراخه، وقيل: هو تفسير لذلك،على أنه إشارة مبهمة، وقيل: خبر لقوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ} على أن الكلام قد تم عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}. {فَآزَرَهُ} فقواه، من المؤازرة، بمعنى المعاونة، أو من الإيزار، وهي الإعانة، {فَاسْتَغْلَظَ}فصار غليظاً، بعد ما كان دقيقاً، {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} فاستقام على قصبه، جمع ساق، {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} بقوته وكثافته، وحسن منظره، وهو مثل ضربه الله عز وجل لأصحابه عليه الصلاة والسلام، قلوا في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، فترقى أمرهم يوماً فيوماً، بحيث أعجب الناس، وقيل: مكتوب في الإنجيل، سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} علة لما يعرب عنه الكلام من تشبههم بالزرع في زكائه واستحكامه.(تفسير أبي السعود، 8/115)
مزيد من التأويل لمَثَلُهُم فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ
جاء في تفسير الثعالبي، أن ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل، وتم القول، وكزرع ابتداء تمثيل، وقال الطبري وحكاه عن الضحاك: المعنى ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة، وتم القول، ثم ابتدأ، ومثلهم في الإنجيل كزرع، وقيل غير هذا، وأبينها الأول، وما عداه يفتقر إلى سند يقطع الشك.
وقوله تعالى: {كَزَرْعٍ} هو مثل للنبي، عليه الصلاة والسلام، وأصحابه، في أنه بعث وحده، فكان كالزرع، حبة واحدة، ثم كثر المسلمون، {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} فهم كالشطء، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل، يقال: أشطأت الشجرة إذا أخرجت غصونها، وأشطأ الزرع إذا أخرج شطأه.
وقوله تعالى: {فَآزَرَهُ} له معنيان، أحدهما: ساواه طولاً، والثاني: أن آزره ووازره بمعنى أعانه وقواه، مأخوذ من الأزر، وفاعل آزر يحتمل أن يكون الشطء، ويحتمل أن يكون الزرع.
وقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ابتداء كلام، قبله محذوف تقديره: جعلهم الله بهذه الصفة ليغيظ بهم الكفار، قال الحسن: من غيظ الكفار قول عمر بمكة: لا يُعْبَد الله سراً بعد اليوم.(تفسير الثعالبي، 4/184- 185)
راجين الله سبحانه أن ييسر ختم التأمل في صفات المسلمين وأحوالهم، حسب الوارد في الآية القرآنية أعلاه، والذي منه أن مثلهم في التوراة والإنجيل، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وأن سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ، وأنهم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً، إضافة إلى كونهم ركعاً سجداً، يواظبون على ذلك، وأنهم رحماء بينهم، أشداء على الكفار، هم ونبيهم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين
9 محرم 1442هـ