.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يبين خمسة من جوانب علاقة المسلم بالمسلم - الحلقة الأولى

==========================================================

عن عَبْد اللهِ بْنَ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". (صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يظلمه)
يبين الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديثه الشريف الصحيح هذا أموراً رئيسة تتعلق بعلاقة المسلم بالمسلم، وهذا البيان ليس لمجرد الإعلام والإخبار، وإنما ترسى بموجبه مبادئ تنبغي مراعاتها، ولكل منها مقتضيات يجدر الانتباه إليها، وأخذها بالحسبان، على درب الاستقامة المطلوبة من المسلم كفرد، ومن المسلمين كجماعة على صراط الله المستقيم، الذي يسألون الله الهداية إليه دائماً وأبداً، وعلى وجه الخصوص في كل ركعة من ركعات صلاتهم؛ فرضها ونافلتها، وهم يقرأون فيها أم الكتاب وفاتحته.
أوجه لعلاقة المسلم بالمسلم
الأمور الرئيسة المحددة لعلاقة المسلم بالمسلم في هذا الحديث الشريف خمسة، هي:
1) الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. 2) المسلم لا يظلم المسلم ولا يسلمه. 3) المسلم الذي يكون في حاجة أخيه يكون الله في حاجته. 4) المسلم الذي يفرج عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً يفَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. 5) المسلم الذي يستر مُسْلِمًا يسَتَرهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وسيتم بعون الله ومشيئته الوقوف عند كل أمر من هذه الأمور الخمسة بما يتيسر من التوضيح والبيان والمثال والدليل والبرهان، بهدف الاتعاظ بالتذكير، فالذكرى تنفع المؤمنين، عملاً بأمر الله بها لتحقيق هذه الغاية، حيث قال جل شأنه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات:55)
الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ
تربط المسلم بالمسلم أخوة غير مشروطة بعلاقة نسب أو رضاعة أو مصاهرة أو عمل، وإنما رابطة أرسى مبدأها الله على أساس الانتماء للإيمان والإسلام، فكل مسلم أخ للمسلم البعيد والقريب، العربي والعجمي، صغير السن وكبيره. وقد أُقرت هذه الأخوة في آيات قرآنية وأحاديث نبوية صحيحة، وتمثل المسلمون في عصور الازدهار الإسلامي مقتضياتها على الوجه المرضي والمطلوب.
فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...} (الحجرات:10) ومنَّ الله على المؤمنين أن أصبحوا بنعمته إخواناً، فقال عز وجل: {...وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً...} (آل عمران:103)
ويقول جل ذكره: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ...} (التوبة:11)، ويقول سبحانه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ...} (الأحزاب:5)
يذكر الشنقيطي أن من الْآيَات الدَّالة على أَنّ الرَّابطة الْحقيقيّة هي الدِين، وَأَنَّ تلك الرّابطة تتلاشَى معها الرّوابط النّسْبيّة والعصبيَّة جميعها: قَوْله تعالَى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ...} (المجادلة:22) إِذْ لا رابطة نسْبِيَّة أَقرب من رابطة الْآباء والْأَبْنَاء والْإِخْوَان والعشَائر، إِلَى غيْر ذلك من الْآيَات. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 3 /42)
والأعمال الرئيسة الأولى التي قام بها النبي، صلى الله عليه وسلم، بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، كان منها الإخاء بين المهاجرين والأنصار، ومما جاء في الأحاديث الصحيحة حول أخبار وحوادث تتعلق بهذا الإخاء ومقتضياته، ما يأتي:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ: (وَرَثَةً) {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نَسَخَتْ، ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِلَّا النَّصْرَ، وَالرِّفَادَةَ، وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ، وَيُوصِي لَهُ). (صحيح البخاري، كتاب الكفالة، باب قول الله تعالى: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} (النساء: 33)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (قَالَتِ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ قَالَ: لَا. فَقَالُوا: تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا). (صحيح البخاري، كتاب المزارعة، باب إذا قال اكفني مئونة النخل وغيره وتشركني في الثمر)، فالأنصار تعاملوا مع المهاجرين من منطلق الأخوة، بدليل قولهم: (اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ).
وفي صحيح البخاري بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ انْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ شِئْتَ حَتَّى أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا، وفيه: عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: (قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، وَعِنْدَ الْأَنْصَارِيِّ امْرَأَتَانِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ...". (صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب قول الرجل لأخيه انظر أي زوجتي شئت حتى أنزل لك عنها)

للأخوة الإيمانية مقتضيات ولا تنحصر بالشعارات
يجدر التنويه بداية إلى أن الأخوة بين المسلمين لا تقتصر على أخوة المهاجرين والأنصار، بل هي ممتدة بين المسلمين إلى يوم الدين، لعموم ذكرها في الأدلة الشرعية دون تقييد بزمان دون آخر، ولا يكتفى لهذه الأخوة شعارات براقة ترفع هنا أو هناك، وإنما لها مقتضيات أصلها مقتبس من القرآن الكريم، وسنة خاتم النبيين، محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ومن السيرة العملية للسلف الصالح، خلفاء وعلماء وعابدين، رضي الله عنهم أجمعين، وفيما يأتي عينات من هذه المقتضيات حسب أدلة ثبوتها:


عينة من مقتضيات الأخوة الإيمانية المقتبسة من آيات الذكر الحكيم:
تضمنت بعض آيات القرآن الكريم ذكراَ للفظ الأخ في نصوصها، خلال الحث على أمور تقتضيها الأخوة، أو النهي عن أخرى تتنافى معها، ومن تلك الآيات الكريمة والموضوعات التي تطرقت إليها ذات الصلة بالعلاقة الأخوية:
الإصلاح بين الإخوة عند اختلافهم أو تنازعهم:
فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات:10) يبين صاحب البحر المديد أن الفاء في قوله تعالى: {فأصْلِحوا بين أخوَيكم} للإيذان بأنّ الأخوة الدينية موجبة للإصلاح. ووضع المُظهَر مقامَ المُضمَر مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه، وتخصيص الاثنين بالذكر؛ لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأَولى؛ لتضاعف الفتنة والفساد فيه. وقيل: المراد بالأخَويْن: الأوس والخزرج. (البحر المديد، 7 /237)
تآلف قلوب الإخوة، ونزع الغل من قلوبهم تجاه إخوانهم:
لما أمر الله المؤمنين بالاعتصام بحبل الله، ونهاهم عن التفرق، ذكرهم بنعمته عليهم أن أصبحوا بفضله سبحانه وهدايته وتوفيقه إخواناً، فقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً...} (آل عمران:103)
وأخبر الله عن نزع الغل من صدور الفائزين بجنته ورضوانه يوم القيامة، فتلك نعمة عظيمة يمنها عليهم أن يصبحوا بهذا الحال إخواناً على سرر متقابلين، مصداقاً لقوله جل ذكره: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} (الحجر:47)
ومن الحرص الصادق الذي يكنه المسلم للمسلم أنه يدعو الله أن يطهر قلبه من الغل للمؤمنين، وعن هذه الميزة يقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر:10)
يذكر عبد الكريم الخطيب أن المقصود بالذين جاءوا من بعدهم هم المؤمنون الذين يجيئون من بعد المهاجرين والأنصار، في مختلف الأزمان والأوطان، فالمؤمنون جميعاً كيان واحد، وأنه إذا كان للمهاجرين والأنصار وضع خاص في الإسلام، ومنزلة عالية في المسلمين، فليس ذلك بالذي يعزلهم عن المؤمنين في أي زمان ومكان، وليس ذلك بالذي يعزل أي مؤمن عنهم؛ فالمؤمنون جميعاً إخوة في اللّه، ومجتمع واحد في دين اللّه، على امتداد الأزمان والأوطان. (التفسير القرآني للقرآن، 1 /417)
ويبين الطاهر بن عاشور أن هذه الآية شملت كل من يوجد من المسلمين أبد الدهر، وعلى هذا جرى فهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. (التحرير والتنوير، 26 /86)
وفي هذا إشارة إلى حديث مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَيْبَرَ. (صحيح البخاري، كتاب المزارعة، باب أوقاف أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وأرض الخراج ومزارعتهم ومعاملتهم)

بَعْضُ المؤمنين أَوْلِيَاء بَعْضٍ:
من ثمار الأخوة الإيمانية أن يصبح المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وبهذا الشأن يقول جل شأنه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ...} (التوبة:71)
يذكر السعدي أن ذكور المؤمنين وإناثهم {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في المحبة والموالاة، والانتماء والنصرة. (تفسير السعدي، 343)
ويذكر محمد الشربيني أن المؤمنين والمؤمنات أولياء بعض في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة. (تفسير السراج المنير ، 1 /497)
فهذه وقفة أولى مع جزء من جانب من جوانب علاقة المسلم بالمسلم، حسب المبين في حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المثبت نصه أعلاه، ويتعلق هذا الجزء من جانب الأخوة بين المسلمين، "المسلم أخو المسلم" حيث تم الاستدلال بآيات قرآنية كريمة، وأحاديث نبوية شريفة، على مشروعية هذه الأخوة وإرساء مبادئها، وبيان بعض مقتضياتها، على أمل التوفيق للوقوف عند عينة من مقتضيات الأخوة الإيمانية المقتبسة من نصوص السنة النبوية الشريفة، وعند مزيد من جوانب علاقة المسلم بالمسلم المستخلصة من القرآن الكريم وسنة الرسول، الأسوة صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
11 ربيع الآخر 1447هـ

تاريخ النشر 2025-10-03
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس