عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ). (صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه)
أشارت الحلقة السابقة إلى أمور رئيسة تتعلق بعلاقة المسلم بالمسلم، بهدف مراعاة المبادئ ذات الصلة، وأخذ مقتضياتها بالحسبان، على درب الاستقامة المطلوبة من المسلم كفرد، ومن المسلمين كجماعة على صراط الله المستقيم، والأمور الرئيسة المحددة لعلاقة المسلم بالمسلم في هذا المقام خمسة، أولها أن المسلم أخو المسلم، فهما يرتبطان بأخوة غير مشروطة بعلاقة نسب أو رضاعة أو مصاهرة أو عمل، وإنما رابطة أرسى مبدأها الله على أساس الانتماء للإيمان والإسلام، فكل مسلم أخ للمسلم، وقد أُقرت هذه الأخوة في آيات قرآنية وأحاديث نبوية صحيحة، وتمثل المسلمون في عصور الازدهار الإسلامي مقتضياتها على الوجه المرضي والمطلوب، وهي لا تنحصر بالشعارات، ولا تقتصر على أخوة المهاجرين والأنصار، بل هي ممتدة بين المسلمين إلى يوم الدين، لعموم ذكرها في الأدلة الشرعية دون تقييد بزمان دون آخر، ومن مقتضيات الأخوة الإيمانية المقتبسة من آيات الذكر الحكيم: الإصلاح بين الإخوة عند اختلافهم أو تنازعهم، وتآلف قلوب الإخوة، ونزع الغل من قلوبهم تجاه إخوانهم، وبَعْضُ المؤمنين أَوْلِيَاء بَعْضٍ، في المحبة والموالاة، والانتماء، وفي اتفاق الكلمة والعون والنصرة.
عينة من مقتضيات الأخوة الإيمانية مقتبسة من السنة النبوية الشريفة
تضمنت بعض الأحاديث النبوية ذكراً للفظ الأخ في نصوصها، خلال الحث على أمور تقتضيها الأخوة، أو النهي عن أخرى تتنافى معها، ومن تلك الأحاديث حديث أنس المثبت نصه أعلاه، وأحاديث أخرى.
حب الخير للمسلم:
حديث أنس المثبت نصه أعلاه، يؤكد فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، على عمق العلاقة التي ينبغي أن تكون بين المسلمين، فهي علاقة وثيقة للغاية، يُرفض بموجبها أن يكون المسلم أنانياً يقصر حبه للخير على نفسه، وإن فعل ذلك؛ فإن إيمانه يعتوره النقص والخلل، حتى يعدل نواياه ومقاصده وسلوكه، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومعنى (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ) أي لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل وإن لم يكن بهذه الصفة، والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات. (تحفة الأحوذي، 7 /184)
وحصول كمال المودة حتى يقرب أن ينزل أخاه منزلة نفسه في الخيرات بطريق الكناية، أو المراد أن يحب ذلك في الأعم الأغلب، ولا يلزم في كل شيء، سيما إذا لم يكن لذلك الشيء إلا فرد واحد.
وعظ الأخ وإرشاده ونصحه:
من الأحاديث الأخرى الحاثة على مراعاة مقتضيات الأخوة، حديث عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "آخَى النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ سَلْمَانُ". (صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ، ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له)
فسلمان، رضي الله عنه، انبرى لنصح أخيه أبا الدرداء، لما وجده منشغلاً بالعبادة النهارية والليلية عن أداء ما عليه من واجبات أسرية، وأخرى تتطلبها فطرته، ولم يقل هذا أمر شخصي لا علاقة لي به، بل مارس تقويم خطأ أخيه بأسلوب عملي مؤثر، وختم مهمته بالنص على قاعدة تهذيبية حقوقية، حيث قال لأخيه أبا الدرداء: (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ) وأقره الرسول، صلى الله عليه وسلم، عليها لما ذكرت له.
فضل الدعاء للأخ خاصة بظهر الغيب:
ومن الأحاديث الحاثة على مراعاة مقتضيات الأخوة، تلك التي يحث فيها على دعاء المسلم للمسلم، خاصة في ظهر الغيب، ومنها حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله، صلى الله عليه و سلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ". (صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغناء، باب فضل الدعاء للمسلمين يظهر الغيب)
إذ الدعاء الصادق للأخ بظهر الغيب ينم عن حب خالص، وحرص أكيد على حب الخير للأخ، ولأهمية هذا السلوك الإيجابي من المسلم تجاه أخيه، فإن الله يكافئ الداعي لأخيه بالخير بمثل الخير الذي سأله لأخيه في دعائه، عملاً بقاعدة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8)، وغيرها من قواعد العدالة، والمجازاة على الأعمال حسبها.
وفي حديث لأم الدرداء أكدت فهمها هذا المعنى، وحرصها على الانتفاع من ثماره، فعن صفوان - وهو ابن عبدالله بن صفوان، وكانت تحته الدرداء- قال: قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله، فلم أجده ووجدت أم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم. قالت: فادع الله لنا بخير، فإن النبي، صلى الله عليه و سلم، كان يقول: "دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ". (صحيح مسلم)
يبين النووي أن قوله، صلى الله عليه وسلم: "بِظَهْرِ الْغَيْبِ" فمعناه في غيبة المدعو له، وفي سره؛ لأنه أبلغ في الإخلاص. وقوله: "بِمِثْلٍ" يقال هو مثله ومثيله بزيادة الياء، أي عديله سواء.
وفي هذا فضل الدعاء للأخ المسلم بظهر الغيب، ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة، ولو دعا لجملة المسلمين فالظاهر حصولها أيضاً، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ لأنها تستجاب، ويحصل له مثلها. (صحيح مسلم بشرح النووي، 17 /49)
خطيئة تكفير الأخ:
كما بينت بعض الأحاديث مقتضيات للأخوة لمراعاتها، بينت أحاديث أخرى أموراً يلزم تجنبها لتناقضها مع متطلبات الأخوة، ومن ذلك النهي عن تكفير المسلم، كما ثبت في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا”. (صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال)
فمكافأة الخير بالخير، والشر بالشر، عدالة تقتضيها المبادئ الدينية، وتتقبلها العقول السوية، التي من أقوال أصحابها: )الخير بالخير والبادي أكرم والشر بالشر والبادي أظلم( وخلال تحذيره الشديد من التكفير الباطل للمسلم من قبل أخيه، بين صلى الله عليه وسلم، أن نتيجة قول المسلم لأخيه: "يا كافر" تقود إلى أن يبوء بهذا الوصف من يوجه إليه، أو قائله، لا محالة، ومعنى "فقد باء به أحدهما" أي: رجع؛ لأنه إن كان القائل صادقاً في نفس الأمر، فالمرميّ كافر، وإن كان كاذباً فقد جعل الرامي الإيمان كفراً، ومن جعل الإيمان كفراً فقد كفر. (حاشية السندي على صحيح البخاري، 4 /32) وفي رواية: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا.(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال)
التحلل من مظلمة الأخ:
من الأحاديث الحاثة على مراعاة مقتضيات الأخوة، حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ ". (صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب من كانت له مظلمة عند الرجل، فحللها له هل يبين مظلمته)
فالأخوة الإيمانية تقتضي كف المسلم عن ظلم أخيه، وإن حصل ووقع منه شيء من ذلك صغيراً أو كبيراً، فينبغي له المسارعة للتحلل من ذلك؛ برد المظلمة لأخيه، وطلب العفو منه، وإن لم يفعل ومات قبل أن يسامحه أخوه، فالعاقبة وخيمة يوم القيامة، إذ يقتص المظلوم من الظالم، فيأخذ من حسناته مقابل المظلمة، وإن فنيت حسنات الظالم لأخيه، قبل اكتمال سد مقابل المظلمة التي وقعت منه تجاه أخيه في الدنيا، فيؤخذ من سيئات المظلوم، ويلقى بها على كاهل الظالم، جزاء له عما سلّف من ظلم لأخيه في الدنيا، والعياذ بالله، ويلاحظ أن لفظ "أخيه" تكرر ذكره في هذا الحديث ثلاث مرات، مما يشير لأهميته، ولضرورة الانتباه لمراعاة حق الأخ، والتحذير من انتهاك هذا الحق.
وقوله: "فَلْيَتَحَلَّلْهُ" قال الخطابي: معناه يستوهبه، ويقطع دعواه عنه، ويقال معنى: "فَلْيَتَحَلَّلْهُ" إذا سأله أن يجعله في حل، وقوله: "اليوم" يعني في الدنيا، وقوله: "قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ" يعني يوم القيامة. ومعنى أخذ الحسنات والسيئات، أن يجعل ثوابها لصاحب المظلمة، ويجعل على الظالم عقوبة سيئاته. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 19 /253-254)
فهذه وقفة ثانية مع جانب آخر من جوانب علاقة المسلم بالمسلم، والمتعلق بالأخوة بين المسلمين، "المسلم أخو المسلم" حيث تم التركيز على جوانب من مقتضيات الأخوة بين المسلمين في ضوء عينة مما جاء في الأحاديث الشريفة بالخصوص، والتي دارت محاورها حول: حب المسلم الخير لأخيه المسلم، ووعظ الأخ أخاه وإرشاده ونصحه، وفضل الدعاء للأخ، خاصة بظهر الغيب، وخطيئة تكفير الأخ، والتحلل من مظلمة الأخ في الدنيا قبل يوم الحساب في الآخرة.
على أمل التوفيق للوقوف عند مزيد من جوانب علاقة المسلم بالمسلم المستخلصة من القرآن الكريم وسنة الرسول الأسوة، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
18 ربيع الآخر 1447هـ