عن عَبْد اللهِ بْنَ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "...وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ..." (صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه)
وقفت الحلقة السابقة عند عينة من مقتضيات الأخوة الإيمانية المقتبسة من السنة النبوية الشريفة، حيث تم الحث على أمور تقتضيها الأخوة، والنهي عن أخرى تتنافى معها، فحذر القرآن الكريم والرسول، صلى الله عليه وسلم، من الظن، ووصف الظن في الحديث الشريف بأنه أكذب الحديث، ومعنى ذلك أن الظن أكثر كذباً، أو أن إثم هذا الكذب أزيد من إثم الحديث الكاذب، أو أن المظنونات يقع الكذب فيها أكثر من المجزومات، والظن أكثر كذباً من الكلام، وإنما كان إثمه أكثر؛ لأنه أمر قلبي، والاعتبار به كالإيمان ونحوه، وتحقيق الظن دون ما يهجس في النفس فإن ذلك لا يملك، لذا فإن الظن بعضه إثم وليس كله.
وضمن تعزيز إجراءات توطيد علاقة المسلم بالمسلم، وإطفاء ما يفسدها، نهى الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن التجسس والتحسس، والتجسس هو البحث عن باطن أمور الناس، وأكثر ما يقال ذلك في الشر، وأما التحسس
-بالحاء- فقد اختلف في تفسيره، فقال بعضهم: هو كالتجسس سواء، ومنهم من فرق بينهما، والله نهى عن التجسس مقروناً بالنهي عن الظن.
وينهى صلى الله عليه وسلم، المسلمين عن التباغض، بصفته آفة وخيمة، وهو نقيض الحب والتآخي الصادق، وقد نبه الله إلى سلبية عظيمة يفرزها التباغض، ألا وهو التنازع، الذي يقود إلى الفشل وذهاب القوة، وشتان بين الإخوة المتحابين وبين المتباغضين، فالمتحابون يحرصون على مصالح إخوانهم، ويحبون الخير لهم، ويدافعون عن حياضهم، ويتنافسون في تحسس حاجاتهم، ويلبون ما استطاعوا إليها سبيلاً، ويؤثرون على أنفسهم إخوانهم ولو كانت بهم خصاصة، بينما المتباغضون يتربصون بإخوانهم الدوائر، ويمتنعون عن تقديم العون لهم لو احتاجوا إليه، ويتحاسدون ويتناجشون ويتخاصمون، ولا يردعهم وازع عن إيذاء بعضهم بعضاً.
وعلى درب توطيد العلاقة بين المسلمين فإن الرسول، صلى الله عليه وسلم، يأمرهم أن يكونوا إخواناً، وهذا الأمر النبوي يتوافق وينسجم تماماً مع المبدأ الذي أرساه الله في قرآنه الكريم، وقد تفضل سبحانه على المسلمين بنعمة التآخي بينهم في الدنيا، ونبههم إلى استذكار هذا الفضل العظيم، ومن خصائصهم الفاضلة في الآخرة، أن الله ينزع ما في صدورهم من غل تجاه بعضهم بعضاً، ويكونون إخواناً على سرر متقابلين، وبفضل نعمة الأخوة تتحقق للمسلمين غايات سامية عظيمة، وخيرات واسعة؛ كالتي تحققت للمهاجرين والأنصار، وللخيرين من بعدهم، فبناء عليها يتعاضدون، ويكونون صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، كما أحب الله لهم أن يكونوا، ويكونون كالجسد الواحد، كما رغب الرسول، صلى الله عليه وسلم، لهم أن يكونوا فِي "تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم).
قضاء حاجات الإخوة
الرسول، صلى الله عليه وسلم، في جزء الحديث الذي يرويه عنه أبو هريرة، رضي الله عنه، والمثبت أعلاه، يعد المسلم الذي يقضي حاجات إخوانه في الدنيا، بأن يتولى الله قضاء حوائجه، "وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ" أي ساعياً في قضائها، "كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ" هذا من قبيل المشاكلة، وفيه تنبيه نبيه على فضيلة عون الأخ على أموره، وإشارة إلى أن المكافأة عليها بجنسها من العناية الإلهية، سواء كان بقلبه أم بدنه أم بهما؛ لدفع المضار، أو جذب المنافع. (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:14/238-239).
وقد ورد في رواية مسلم عن أبي هريرة: "وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"(صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر)
وعن أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ جَالِسًا، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ، أَوْ طَالِبُ حَاجَةٍ، أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ". (صحيح البخاري، كتاب الآداب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً) قال ابن بطال: الشفاعة في الصدقة وسائر أفعال البر، مرغب فيها، مندوب إليها، ألا ترى قوله، صلى الله عليه وسلم: "اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا" فندب أمته إلى السعي في حوائج الناس، وشرط الأجر على ذلك، ودَلَّ قوله، صلى الله عليه وسلم: "وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ" أن الساعي مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه، ولم تنجح طلبته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". (شرح صحيح البخاري- لابن بطال:3/434)
يذكر العيني عن الطيبي قوله في: "اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا" أن اللام والفاء مقحمان للتأكيد؛ لأنه لو قيل اشفعوا تؤجروا صح؛ أي إذا عرض المحتاج حاجة عليّ فاشفعوا له إليّ، فإنكم إذا شفعتم حصل لكم الأجر، سواء قبلت شفاعتكم، أو لا، ويجري الله على لساني ما يشاء من موجبات قضاء الحاجة، أو عدمها، أي إن قضيتها أو لم أقضها، فهو بتقدير الله وقضائه. (عمدة القاري:31/210-211)
فتستحب الشفاعة الحسنة، ولو لم تتم الاستجابة إليها من قبل من قدمت إليه، والله يثيب الذي يشفع الشفاعة الحسنة لمجرد المبادرة إليها بإخلاص، وهو القائل سبحانه: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} (النساء:85)
مع التنبيه إلى أن الشفاعة في الحدود الشرعية منهي عنها، وقد زجر الرسول، صلى الله عليه وسلم، حِبه وابن حِبه، أسامة بن زيد لما حاول الشفاعة للتي ثبت عليها حد شرعي، فعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، (أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!!" ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِم الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِم الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا". (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار)
التعاون على البر والتقوى
يأمر الله المؤمنين بالتعاون على البر والتقوى، فيقول عز وجل: {...وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة:2)، يبين ابن جزي أن هذه وصية عامة، وأن الفرق بين البر والتقوى، أن البر عام في فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات، وفي كل ما يقرب إلى الله، والتقوى في الواجبات، وترك المحرمات، دون فعل المندوبات، فالبر أعم من التقوى. والفرق بين الإثم والعدوان في قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أن الإثم كل ذنب بين العبد وبين الله، أو بينه وبين الناس، والعدوان على الناس. (التسهيل لعلوم التنزيل: 1/295)
ولما سئل الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن البر والإثم، أجاب: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ". (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم)
يبين د. محمد محمود حجازي أن البر هو ما تطمئن إليه القلوب، وتسكن من كل خير، وطلب الشرع الشريف، على سبيل الأمر والنهي، والإثم هو ما حاك في الصدر، وخفت أن يطلع عليه غيرك؛ من كل ذنب ومعصية للّه، ولا تتعاونوا على العدوان على حق الغير، وهذا من جوامع الكلم الشامل لكل معروف ومنكر، وكل خير وشر.
فالقرآن يأمرنا بالتعاون على كل ما ينفع الأمة في دينها ودنياها، ولا شك أن هذا مبدأ اجتماعي خير، فالأمم وقد تكاثرت أفرادها، وتشعبت اتجاهاتها، وتعددت مصالحها، أصبح لا يؤثر فيها مجهود الفرد مهما كان قوياً، بل لا بد من تعاون غيره معه ومساندته.
وكان المسلمون في العصر الأول يتعاونون على البر والتقوى دون حاجة إلى تكتل وارتباط؛ لأن الكل مرتبط بعهد اللّه وميثاقه. (التفسير الواضح:1/476)
وضرب الرسول، صلى الله عليه وسلم، للمسلمين مثلاً عملياً دالاً على أهمية التعاون على البر والتقوى، بالذين استهموا على سفينة، فقال: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا". (صحيح البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه)
فالمطلوب من المسلمين في مسارهم التعاوني على البر والتقوى أن يخلصوا في تقديم النصح والمشورة والمساعدة المعنوية والمادية حسب استطاعتهم لمن يحتاج إلى ذلك من إخوانهم.
فهذه وقفة رابعة مع جانب آخر من جوانب تعزيز إجراءات توطيد علاقة المسلم بالمسلم، وإطفاء ما يفسدها، والمتعلق بحث المسلم على قضاء حاجات إخوانه، وبذل الجهود لذلك، مع وعده بأن يجزيه الله على مساعيه في هذا السبيل بأن يقضي حاجاته، وقد دارت محاور هذه الوقفة حول: قضاء حاجات الإخوة، والتعاون بينهم على البر والتقوى، على أمل التوفيق للوقوف عند مزيد من جوانب علاقة المسلم بالمسلم المستخلصة من القرآن الكريم وسنة الرسول الأسوة، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
2 جمادى الأولى 1447هـ