عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ".(صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب رمي المحصنات)
وقفت الحلقة السابقة خلال الحديث عن التحذير من قتل الأخ أخاه، والاقتتال الداخلي بين المسلمين، عند إجابة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لما سئل عن سبب جزاء المقتول والقاتل النار حين يلتقيان بسيفيهما، حيث أجاب بأن المقتول قبل أن يقتل كان حريصاً على قتل صاحبه، فقد وجبت النار على المقتول في هذه الحالة بنيته ومباشرته للقتل، وهذا لا يعارض قوله، صلى الله عليه وسلم: "...وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ" (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب)؛ لأن الذي لم يعمل السيئة ليس كمثل الذي شرع في القتال مع الإصرار، ومريد المعصية إذا لم يعملها، وكان جازماً على عملها، وأصر عليه، يصير به عاصياً، ومن يعص الله ورسوله يدخله ناراً.
وقتل الأخ أخاه -سواء بالنسب أم بالرضاع أم بالدين أم بالإنسانية- جريمة نكراء إذا كان بغير حق، وقد وقعت أولى وقائعها منذ بدء الخليقة، وفي الحديث الشريف إشارة واضحة لخطورة جرائم القتل، بغض النظر عن زمان وقوعها ومكانه، وعن أشخاص القتلة والمقتولين، فقد قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا"(صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إثم من دعا إلى ضلالة، أو سن سنة سيئة) يعني عليه إثمًا؛ لأنه أول من سنَّ القتل، فاستن به القاتلون بعده؛ فجريمة القتل الأولى في مسار الحياة البشرية، اقترفها أحد ابني آدم ضد أخيه، ما جلب للقاتل وزراً غير منقطع، ومعلوم في الشرع ابتداء، جزاء الذي يسن سنة حسنة، بأن لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، والذي يسن سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ.
ولفظاعة هذه الجريمة أخبر القرآن الكريم في ست آيات كريمة متتالية من سورة المائدة (27-32) عن بعض تفاصيلها، مركزاً على جانب البراءة والنقاء والتحرز عن بسط اليد لقتل الأخ، كما ظهر جلياً في موقف الأخ الذي قُتل فيما بعد بيد أخيه، بخلاف الآخر الذي سول له الشيطان وأغواه؛ فقتل أخاه، ثم ندم بعد أن صار الندم لا يجدي ولا ينفع، والمقصود من التشبيه في قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة:32) تهويل القتل.
قتل العمد الظالم من السبع المهلكات
الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديثه الشريف المثبت نصه أعلاه، يبين أن القتل الظالم بغير حق من السبع الموبقات، فيقول: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ" وعد منها: "وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ...". يبين السندي أن معنى الموبقات: المهلكات، والتقييد بالسبع مثال؛ إذ الموبقات لا تنحصر فيها، وقد ورد منها: اليمين الفاجرة، وعقوق الوالدين، والإلحاد في الحرم، وشرب الخمر، وقول الزور، والغلول، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، وغير ذلك. (حاشية السندي على صحيح البخاري: 4/86)
وينقل العيني أقوالاً في تفسير معنى كبائر الذنوب، فذكر أنه قيل: الكبيرة كل معصية، وقيل كل ذنب قرن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، وقال رجل لابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبعمائة. فالكبيرة أمر نسبي، فكل ذنب فوقه ذنب فهو بالنسبة إليه صغيرة، وبالنسبة إلى ما تحته كبيرة. (عمدة القاري: 4/485)
وعَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ قَالَ: التَّقِيَّة جَائِزَة لِلْمُؤْمِنِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَل فِي الْقَتْل تَقِيَّة، فإنه لَا يُعْذَر مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل غَيْره؛ لِكَوْنِهِ يُؤْثِر نَفْسه عَلَى نَفْس غَيْره. وَمَعْنَى التَّقِيَّة الْحَذَر مِنْ إِظْهَار مَا فِي النَّفْس مِنْ مُعْتَقَد، وَغَيْره لِلْغَيْرِ، وَأَصْله وَقْيَة مِنْ الْوِقَايَة. (فتح الباري: 19/398)
وقد رتب الله على القتل المتعمد جزاء مشدداً، فقال عز وجل: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء:93)
يبين ابن عاشور أن المُتَعمِد: القاصد للقتل، مشتق من عمد إلى كذا، بمعنى قصد وذهب. والأفعال كلها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ، ويعرف التعمد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلا وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تزهق به الأرواح في متعارف الناس، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء، ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء: القتل نوعان عمد وخطأ، وهو الجاري على وفق الآية، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سماه شبه العمد، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية، إن صحت فتأويلها متعين، وتحمل على خصوص ما وردت فيه. (التحرير والتنوير: 4/222)
ويبين ابن جزي أن المتعمد عند الجمهور هو الذي يقصد القتل بحديدة أو حجر أو عصا أو غير ذلك، وهذه الآية معطلة على مذهب الأشعرية وغيرهم ممن يقول لا يخلد عصاة المؤمنين في النار، واحتج بها المعتزلة وغيرهم ممن يقول بتخليد العصاة في النار، لقوله: {خالداً فيها} وتأولها الأشعرية بأربعة أوجه:
أحدها: إنها في الكافر إذا قتل مؤمناً.
والثاني: معنى المتعمد هنا المستحل للقتل، وذلك يؤول إلى الكفر.
والثالث: الخلود فيها ليس بمعنى الدوام الأبدي، وإنما هو عبارة عن طول المدة.
والرابع: أنها منسوخة بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...} (النساء:48)
وأما المعتزلة فحملوها على ظاهرها، ورأوا أنها ناسخة لقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...} واحتجوا على ذلك بقول زيد بن ثابت: نزلت الشديدة بعد الهينة، وبقول ابن عباس: الشرك والقتل من مات عليهما خلد. وبقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ، إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا، أَوِ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا "(سنن النسائي، كتاب تحريم الدم، وصححه الألباني)
وتقتضي الآية وهذه الآثار أن للقتل حكماً يخصه من بين سائر المعاصي، واختلف الناس في القاتل عمداً إذا تاب، هل تقبل توبته أم لا؟ وكذلك حكى ابن رشد الخلاف في القاتل إذا اقتص منه، هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا؟ ورجح أنه يسقط عنه. (التسهيل لعلوم التنزيل:1/275-276)
ومن الأدلة التي يستند إليها القائلون بسقوط العقاب في الآخرة عمن قتل وتاب، أو عوقب بالقصاص، حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قَالَ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا ـ وَرُبَّمَا قَالَ: أَذْنَبَ ذَنْبًاـ فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ـ وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ - فَاغْفِرْ لِي. فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ، أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَابَ ذَنْبًا، قَالَ: قَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ، أَوْ قَالَ: أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ". (صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} [الفتح: 15])
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً}
يبين المناوي أن قَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ يشمل قتلها عمداً كان أو شبه عمد، لا خطأ، فهذا لا كبيرة ولا صغيرة؛ لأنه غير معصية {إلا بالحق} أي بفعل موجب للقتل، وأعظم الكبائر الشرك ثم القتل ظلماً. (فيض القدير:1/153) والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً...} (النساء:92)
يذكر الشنقيطي أنه قَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ خَطَأً لَا يَدْخُلُ فِي حكم القتل المتعمد؛ كَقَوْلِهِ تعالى: {...وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رحِيماً} (الأحزاب:5)
وَقَوْلِهِ: {...رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا...} (البقرة:286) (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:3/90)
وقد ثَبَتَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم: "قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا". قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا} قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ". (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284])
فهذه وقفة ثالثة عند أبعاد أخرى للتحذير من جريمة الاقتتال بين المسلمين، وقتل الأخ أخاه، أشير خلالها إلى أن قتل العمد الظالم من السبع المهلكات، وأنه مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً، مع بيان الجزاء العقابي المترتب على القتل العمد، على أمل التمكن من متابعة الوقوف عند مزيد من الأبعاد الخطيرة لاقتتال المسلمين، والتقاء المسلميْن بسيفيهما، إضافة إلى مزيد من الإشارة والبيان للأحكام المترتبة على القتل الخطأ من حيث الكفارة والدية، وذلك في ضوء ما جاء بالخصوص في آيات القرآن الكريم وأحاديث خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
7 جمادى الآخرة 1447هـ