يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء:92)
وقفت الحلقة السابقة عند اعتبار قتل العمد الظالم من السبع الموبقات المهلكات، وقد رتب الله على القتل المتعمد جزاء مشدداً، والأفعال كلها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ، ويعرف التعمد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلا وهو قاصد إزهاق روحه، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سماه شبه العمد.
القتل الخطأ
الآية القرآنية الكريمة الثانية والتسعون من سورة النساء، والمثبت نصها أعلاه، يستثني فيها رب العالمين القتل الخطأ من الأحكام الصارمة التي رتبها على القتل العمد، وبينها سبحانه في الآية التالية -93 من سورة النساء- فالقتل الخطأ يخلو من التعمد، لكن أشكاله قد تتعدد وتختلف من حالة لأخرى، وفي المحصلة شرعت أحكام للقتل الخطأ تختلف عن أحكام العمد، فلا قصاص في الخطأ، ولا لعنة ولا توعد بالنار، لكن تترتب عليه أحكام شرعية، أبرزها الدية، والكفارة، وفي الآية الكريمة أعلاه تفصيل لهذه الأحكام يرتبط بالقاتل والمقتول، والمجال هنا لا يتسع للخوض في هذه التفاصيل، التي احتفت بها المراجع الفقهية وكتب التفسير ومراجع شروح الأحاديث النبوية، وقد يكون من المفيد في هذا المقام التذكير بقرار مجلس الإفتاء الأعلى في فلسطين الخاص بتقدير مقدار الدية.
قرار مجلس الإفتاء الخاص بتقدير دية القتل الخطأ
مجلس الإفتاء الأعلى في فلسطين في قراره رقم 2/86 بتاريخ 24/2/2011م، اعتمد الإبل كأصل في دفع الدية الشرعية، وبناء عليه؛ تكون قيمة مائة من الإبل في حالة القتل الخطأ (84000) أربعة وثمانين ألف دينار أردني، وفي حالة الدية المغلظة تكون (100.000) مائة ألف دينار أردني، ونوه المجلس إلى أن هذا التقدير قابل للتغيير بناء على ما يطرأ على أسعار الإبل من ارتفاع أو انخفاض.
وبرر المجلس إعادة النظر في تحديد قيمة الدية الشرعية، بناء على ما يأتي: الانسجام مع الآراء الفقهية التي تجمع على اعتماد الإبل كأساس شرعي في الدية، الارتفاع المضطرد وغير المسبوق في أسعار الذهب (والذي كان سابقاً أساساً في تقدير الدية) ما رفع من قيمة الدية الشرعية بشكل كبير، الأمر الذي يثقل على كاهل الناس، ويعطل في كثير من الأحيان إنهاء الخلافات العالقة التي سببتها حوادث القتل المختلفة بسبب العجز عن جمع قيمة الدية الباهظة، والاطلاع على قيمة الدية الشرعية المعتمدة في بعض الدول العربية والإسلامية المجاورة، والتعديلات التي أدخلت على قيمة الدية.
وأجرى المجلس اتصالاته وقت تقدير الدية مع وزارة الزراعة وشركات الاستيراد للتحقق من تكلفة سعر الإبل في حال الاستيراد، ووفق السوق المحلي، حتى توصل إلى تقدير القيمة المبينة أعلاه.
وأكد المجلس أن هذا القرار نابع من الأصول الشرعية المعتمدة في تقدير قيمة الدية الشرعية، ومتوافق مع ما هو معمول به في الدول العربية والإسلامية المجاورة لفلسطين، منوهاً إلى أن تغليظ الدية في القتل العمد حين يتعذر تنفيذ حكم القصاص، أو حين يعفو أولياء المقتول عنه، إنما يهدف إلى ردع كل من تسول له نفسه بالاعتداء على حياة الآخرين، وإزهاق النفس البشرية.
ودعا المجلس الناس إلى الابتعاد عن القتل ومسبباته، وإلى التراحم والترابط، وإلى ترك البغضاء والخلاف، وأن يحكموا الدين وأهله في حل النزاعات بينهم، خوفاً من الانزلاق في خطيئة القتل، كما دعا أولياء المقتول إلى الرحمة بالقاتل وذويه حين يقع القتل خطأ.
القصاص من القاتل عمداً
الله العليم الحكيم، أمر بالعدل والإحسان، فقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ...}(النحل:90) وحرم الله الظلم على نفسه، وجعله محرماً بين عباده، وفي ظل هذه الصفات العلية شرع سبحانه القصاص من القاتل عمداً بغير حق، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة:178)
يذكر ابن عاشور أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} يحتمل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل، ويحتمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو؛ كالعوض له والمثل، ويحتمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل، فأفاد قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى، فلا يذهب حق قتيل باطلاً، ولا يقتل غير القاتل باطلاً، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف، وإهمال حق الضعيف إذا قتله القوي الذي يخشى قومه، ومن تحكمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قتل أحد رجلاً شريفاً، يطلبون قتل رجل شريف مثله، بحيث لا يقتلون القاتل إلا إذا كان بواء للمقتول؛ أي كفؤاً له في الشرف والمجد، ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السؤدد والشرف، ويسمون ذلك التفاوت تكايلاً؛ من الكيل. (التحرير والتنوير، 2/135)
بعض الناس يعترضون على حكم القصاص، أو ينتقدونه، بداعي احترام حياة الإنسان، ويتغافل هؤلاء أو ينسون أن قتل القاتل بموجب حكم القصاص، فيه صون لحياة الأبرياء وأرواحهم من أن تزهق دون حق، وقد أشار جل في علاه في الآية التالية للآية سالفة الذكر من سورة النساء، والتي فرض فيها القصاص في القتلى، إلى حكمة عظيمة للقصاص، فقال جل في علاه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179)
يبين الشنقيطي أنه لا شك في أن هذا من أعدل الطرق وأقومها، ولذلك يشاهد في أقطار الدنيا قديماً وحديثاً قلة وقوع القتل في البلاد التي تحكم بكتاب الله؛ لأن القصاص رادع عن جريمة القتل، كما ذكره الله في الآية المذكورة آنفاً، وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة؛ لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسانٍ ثانٍ بعد أن مات الأول، وأنه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع، كله كلام ساقط، عار من الحكمة؛ لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل، فإذا لم تكن العقوبة رادعة؛ فإن السفهاء يكثر منهم القتل، فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 3/32)
فالقصاص فيه محافظة على حياة الناس، ومنع التساهل في سفك دمائهم، والتقليل من جرائم إزهاق أرواحهم، فالقتل حين يكون جزاء لمن يقتل غيره طيشاً أو ظلماً هو عين العدل والحكمة، وكما يقال: القتل أنفى للقتل.
فلا يسرف في القتل
أولياء المقتول الذين أعطاهم الحق بالقصاص من القاتل، ينهاهم الله عن الإسراف والشطط في القتل، فيقول جل ذكره: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} (الإسراء:33)
يبين الشنقيطي أن السلطان المذكور هو ما تضمنته آية القصاص هذه، وخير ما يبين به القرآن القرآن.
ويُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: {مَظْلُومًا} أن من قتل غير مظلوم ليس لوليه سلطان على قاتله، وهو كذلك؛ لأن من قتل بحق فدمه حلال، ولا سلطان لوليه في قتله. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 3/88)
وقد جاء في الحَدِيث أن رَسُول اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ». (صحيح مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم)
وفي النهي عن الإسراف في القتل تحذير من التأسي بأخلاق الجاهلية، إذ كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطاً؛ فلا يتقيدون بقتل القاتل، وإنما يقتلون غيره من ذوي قرباه، ويسرفون أحياناً في الثأر والانتقام، لا سيما إذا كانوا أقوى من جماعة القاتل. وقد سلمت الآية بحق وليّ القتيل في القصاص، ثم نهته عن إساءة استعمال هذا الحق. حيث انطوى في ذلك إيذان بالقضاء على عادة جاهلية ظالمة، والمفسرون بالإضافة إلى حملهم الآية على ما ذكر حملوا جملة {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} على محمل آخر أيضاً، حيث قالوا إن الخطاب فيها موجه إلى من يريد أن يقترف فعل قتل، من باب التحذير، ويبين صاحب التفسير الحديث أن هذا لا يخلو من وجاهة، وإن كان حملها على أنها خطاب لولي المقتول أكثر وجاهة؛ لأنه الأقرب للكلام. (التفسير الحديث، ص1912)
فهذه وقفة رابعة عند أبعاد أخرى للتحذير من جريمة الاقتتال بين المسلمين، وقتل الأخ أخاه، أشير خلالها إلى بعض أحكام القتل الخطأ، وإلى قرار مجلس الإفتاء الخاص بتقدير دية القتل الخطأ، وإلى حكم القصاص من القاتل عمداً، وحكمته مع النهي عن الإسراف في القتل.
سائلين الله العلي القدير التوفيق للتمكن من متابعة الوقوف عند مزيد من أبعاد اقتتال المسلمين، والتقاء المسلمين بسيفيهما، إضافة إلى مزيد من الإشارة والبيان للأحكام المترتبة على القتل الخطأ من حيث الكفارة والدية، وذلك في ضوء ما جاء بالخصوص في آيات القرآن الكريم وأحاديث خاتم النبيين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
14 جمادى الآخرة 1447هـ