عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ، فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ، فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ). (صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب التلبينة)
ضمن متابعة الحديث عن قضايا ومسائل متشعبة عن موضوع الاستعاذة بالله من الهم والحزن وأمور أخرى، وقفت الحلقة السابقة عند نهي الله نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، عن الحزن عما في أيدي الكافرين من متاع وملذات، كما جاء في الآية 88 من سورة الحجر، فنهي عن النظر بإعجاب لما في أيدي الكافرين من حسن الحال في رفاهية عيشهم مع كفرهم، أي فإن ما أوتيته أعظم من ذلك، فلو كانوا بمحل العناية لاتبعوا ما آتيناك، ولكنهم رضوا بالمتاع العاجل، فليسوا ممن يعجب حالهم، ولفظ الأزواج هنا يحتمل أن يكون على معناه المشهور، أي الكفار ونسائهم. ووجه تخصيصهم بالذكر أن حالتهم أتم أحوال التمتع لاستكمالهم اللذات والأُنس جميعه. ويحتمل أن يراد به المجاز عن الأصناف، ووجه ذكره في الآية، أن التمتع الذي تمتد إلى مثله العين ليس ثابتاً للكفار جميعهم، بل هو شأن كبرائهم، أي فإن فيهم من هم في حال خصاصة، فاعتبر بهم كيف جمع لهم الكفر وشظف العيش.
والنهي عن الحزن شامل لكل حال من أحوالهم من شأنها أن تحزن الرسول، عليه الصلاة والسلام، وتؤسفه. ولما كان هذا النهي يتضمن شدة قلب وغلظة، لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين، بقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}(الحجر:88).
واستثنى الله في الآيتين 91-92 من سورة التوبة شرائح مؤمنة من الملامة؛ لتخلفهم القهري عن أداء الواجب الجهادي، في ظروف انضباطية معينة، ومن بين هؤلاء المستثنين الذين يتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً؛ لأنهم لم يجدوا الإمكانية المادية التي تيسر لهم الخروج لأداء الواجب، ثم إنه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً متضمناً في قوله تعالى: {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ثم قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} وبناء عليه فلا إثم على الذين قعدوا عن الجهاد، بسبب أنهم لا يجدون ما ينفقون، وهم الفقراء الذين ليس معهم دون النفقة، والمذكورون في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة، إلا أنهم لم يجدوا المركوب، والمفسرون ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً، منها أنها نزلت فيمن لُقِّبُوا بِالْبَكَّائِينَ؛ لِأَنَّهُمْ بَكَوْا لَمَّا لَمْ يَجِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْحُمْلَانِ حَزَنًا عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْجِهَادِ.
وخلال تبكيت الكافرين والجاحدين قبيل دخولهم النار، ينادي أصحاب الأعراف رجالاً من المستكبرين بنداء يتضمن دحض زعمهم بأن فقراء المؤمنين لن ينالهم الله برحمته، ويُدْعى أهلُ الأعراف يومها لدخول الجنة في حال مفعم بالأمن والسرور، خالياً من الخوف والحزن، كما هو مبين في الآيتين 48 و49 من سورة الأعراف.
التَّلْبِينَةُ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ
يبين حديث عائشة، رضي الله عنها، المثبت نصه أعلاه، حرصها على فعل ما يساعد في التخفيف من آثار الحزن الذي ينتاب من مات لهن قريب من أهلهن، فكانت تأمر بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ، فَتطُبِخ، ثُمَّ تصُنِعَ ثَرِيداً، وتصُبّ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا، ثُمَّ تقول لهن: كُلْنَ مِنْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ). والبرمة: بضم الباء الموحدة وسكون الراء: نوع من آنية الطهي، وهي القدر مطلقاً، وهي في الأصل تتخذ أو تصنع من الحجر المعروف في الحجاز واليمن (عمدة القاري:17/180)، وَعَمَّمه بعضُهم فيَشْمَل النَّحاسَ والحَدِيدَ وَغَيرهمَا، وجمعها: بُرْمٌ. (تاج العروس:31/268)
والتلبينة حساء يعمل من دقيق أو نخالة أو نشا، سميت بذلك تشبيهاً باللبن لبياضها ورقتها. (تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم: ص248)
ومعنى "مجمة" أي استراحة قلب المريض. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري:30/377)
وفؤاد الحزين يضعف باستيلاء اليبس على أعضائه وعلى معدته؛ لقلة الغذاء، والحساء يرطبها ويغذيها ويقويها، لكن كثيراً ما يجتمع بمعدته خلط مراري أو بلغمي أو صديدي، والحساء يجلوه عن المعدة. (فيض القدير:3/283) والمعنى أنَّ التلبينة تُريح فؤاد المريض، وتُزيل عنه الهمّ وتُنشِّطه. (فتح الباري:16/201)
الحاصل أن هناك عناية واهتمام في الإسلام بإذهاب الحزن عن المصابين بابتلاء أو مصائب، أو تخفيف وقع ذلك عنهم، ولم تقتصر هذه العناية على النهي عن الحزن في مواضع قرآنية عديدة، بل في السنة النبوية المطهرة ما يعاضد هذا المنحى عملياً وواقعياً، ما يستدعي العناية بهذا الجانب المتضمن معنى المواساة المطلوب القيام بها للتخفيف من أحزان الناس.
شكوى البث والحزن إلى الله
تكرر ذكر الحزن في سورة يوسف، فخلال عرض بعض الآثار التي لحقت بيعقوب والد يوسف، عليهما السلام، بعد فقده جراء مكيدة إخوته له، عبر بداية عن حزنه إن أصابه مكروه عند اصطحاب إخوته له، {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} (يوسف:13)
أي إني لتحزنني شدة مفارقته، وقلة صبري عنه، وأخافُ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافِلُون، لاشتغالكم بالرتع واللعب، أو لقلة اهتمامكم به، وإنما خاف عليه من الذئب، لأن الأرض كانت مذأبة، وقيل: رأى في المنام أن الذئاب أحدقت بيوسف، فكان يخافه. (البحر المديد:3/357) يبين عبد الكريم الخطيب أن يعقوب سلّم لأبنائه بما طلبوه بشأن إرسال يوسف معهم، ولكنه أظهر لهم بعض مخاوفه، إذا هو أجابهم إلى ما طلبوا، فهو يحزن لبعد يوسف عنه، ولو ليوم أو بعض يوم، إذ كان سلوته، وأنسه، ثم هو يخشى أن يصيبه مكروه إذا هم غفلوا عنه، فيعدو عليه ذئب من تلك الذئاب المتربّصة لصيد تناله من إنسان أو حيوان في هذه الفلاة التي يرعون فيها!.
وقد أخذ أبناء يعقوب من ردّ أبيهم حجّتهم عليه، فيما فعلوا بيوسف: فأولاً: في قوله: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} كشف لهم أبوهم عن حبّه ليوسف وتعلّقه به، فزاد ذلك من موجدتهم عليه، ومن حسدهم ليوسف، وشدّ عزمهم على ما بيّتوه له من شر! وثانياً: في قوله: {وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ} قد وضع بين أيديهم السلاح الذي يستعملونه في تنفيذ أمرهم الذي دبّروه، وليكون لهم منه ما يصدّق ظنون أبيهم ومخاوفه فيما ظنّه وتخوّفه، فكانت قصّة الذئب التي جاءوا أباهم بها، هي من وحي هذه الظنون، وتلك المخاوف، التي أعلنها أبوهم لهم. (التفسير القرآني للقرآن: 2/394)
ولما أخبر بالقصة الملفقة بأن الذئب أكله، ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (يوسف:84)
فرجع إلى تأسفه {وَقَالَ يَا أَسَفَى} أي: يا شدة حزني على يوسف. وإنما تأسف عليه دون أخويه؛ لإفراط محبته فيه، ولأن مصيبته سبقت عليهما. {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} من كثرة البكاء، كأَنَّ العَبْرَةَ محقت سوادها، وقيل: ضعف بصره، وقيل: عمي. وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع. ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف، فإنه قلَّ من يملك نفسه عند الشدائد. (البحر المديد:3/414)
وقد رد يعقوب، عليه السلام، على أبنائه في تفنيدهم له، لما قالوا له: {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (يوسف:85) بتوجهه إلى الله الملاذ الأقوى والأقدر، وملجأ الأمان، {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (يوسف:86) أي إنما أشكو إلى الله لا إليكم، ولا إلى غيركم، والبث أشد الحزن، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أعلم من لطفه ورأفته ورحمته ما يوجب حسن ظني به، وقوة رجائي فيه. (التسهيل لعلوم التنزيل: 2/30)
وفي هذا درس عظيم للمبتلين بأن يكون اعتمادهم على الله وحده، ويقينهم به سبحانه، بأنه سيفرج عنهم ما يحل بهم من أحزان، ويزيل عنهم الآلام، مهما عظمت واشتد وقعها.
حمد الله على ذهاب الحزن
يوم القيامة يزيد استشعار المؤمنين بفضل الله الوافر عليهم، ومن هذا الفضل إذهاب الحزن عنهم، فيلهجون بالحمد قائلين: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر:34)
والحزن: غم يعترى الإنسان لخوفه من زوال نعمة هو فيها. والمراد به هنا: جنس الحزن الشامل لأحزان الدين والدنيا والآخرة جميعها. أي: وقالوا عند دخولهم الجنات الدائمة، وشعورهم بالأمان والسعادة والاطمئنان: الحمد للّه الذي أذهب عنا ما يحزننا من أمور الدنيا أو الآخرة جميعه.
{ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}، أي: واسع المغفرة لعباده، وكثير العطاء للمطيعين، حيث أعطاهم الخيرات الوفيرة في مقابل الأعمال القليلة. (التفسير الوسيط: 11/350)
وفي وقت قولهم لذلك قولان: أحدهما: عند إعطاء كتبهم بأيمانهم؛ لأنه أول بشارات السلامة، فيقولون عندها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}. الثاني: بعد دخولهم الجنة، قاله الكلبي، وهو أشبه باستقرار الجزاء والخلاص من أهوال القيامة، فيقولون ذلك عند أمنهم شكراً. (النكت والعيون:4/475)
فهذه وقفة ختامية يسر الله إليها عند مسألة من مسائل الحزن، تعلقت بالحث على مواساة الحزين، وتخفيف وقع الحزن عنه، كما تبين من صنع التَّلْبِينَةُ للمصابين لإذهاب بعض الحزن عنهم، وشكوى البث والحزن إلى الله، وحمده سبحانه على ذهاب الحزن يوم القيامة.
وبهذا القدر الذي امتد عبر اثنتي عشرة حلقة منوعة عن الحزن وبعض متعلقاته، التي يرجى أن ينفع الله بها من قرأ وتدبر واتقى وأصلح، نختم الحديث عن عينة من مسائل مختارة تعلقت بجوانب من الاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، كما رويت عن الرسول الأسوة، محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
13 ربيع الأول 1447هـ