نهاه الله عن الحزن على ما في أيدي الكافرين، فقال عز وجل: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر:88)
ضمن متابعة الحديث عن قضايا ومسائل متشعبة عن موضوع الاستعاذة بالله من الهم والحزن وأمور أخرى، وقفت الحلقة السابقة عند وعد الله في الآية 61 من سورة الزمر بحجب الحزن عن المتقين، فلا يحزنون على فائت، إذا هم رأوا ما أعدّ اللّه لهم من نعيم ورضوان، في جنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين. وضمن البشائر الربانية الخاصة بالحماية من الخوف والحزن، وعد الله جل في علاه من يتبع الهدى بالحماية منهما، كما في الآية 38 من سورة البقرة، إذ قال الله لآدم وزوجه بعد أن أزلهما الشيطان وأخرجهما مما كانا فيه من نعيم الجنة: اهبطوا من الجنة جميعًا، وسيأتيكم أنتم وذرياتكم المتعاقبة ما فيه هدايتكم إلى الحق. فمن عمل بها فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا. والذين جحدوا وكذبوا بآياتنا المتلوة ودلائل توحيدنا، أولئك الذين يلازمون النار. كما هو مبين في الآية التالية 39 من سورة البقرة، فمن يتبع هدى الله فلا خوف عليهم في الدارين من لحوق مكروه، ولا هم يحزنون من فوات مطلوب، أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك، ويبشر الله الذين سبقت لهم منه الحسنى، بأن يرفع عنهم حزن الفزع الأكبر، إضافة لمثوبات عظيمة أخرى، كما هو مبين في الآيات 101-103 من سورة الأنبياء، والمراد بالفزع الذي يحمون منه: نفرة النفس وانقباضها مما تتوقع أن يحصل لها من الألم، وهو قريب من الجزع، والمراد به هنا فزع الحشر حين لا يعرف أحد ما سيؤول إليه أمره، فيكونون في أمن من ذلك بطمأنة الملائكة إياهم. ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
ينهى الله الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الآية 88 من سورة الحجر المثبت نصها أعلاه عن الحزن عما في أيدي الكافرين من متاع وملذات، يبين ابن عاشور أن المد: أصله الزيادة. وأطلق على بسط الجسم وتطويله. يقال: مد يده إلى كذا، ومد رجله في الأرض، ثم استعير للزيادة من شيء، واستعير هنا إلى التحديق بالنظر، والطموح به، تشبيهاً له بمد اليد للمتناول؛ لأن المنهي عنه نظر الإعجاب مما هم فيه من حسن الحال في رفاهية عيشهم مع كفرهم، أي فإن ما أوتيته أعظم من ذلك، فلو كانوا بمحل العناية لاتبعوا ما آتيناك، ولكنهم رضوا بالمتاع العاجل، فليسوا ممن يعجب حالهم.
والأزواج هنا يحتمل أن يكون على معاناة المشهور، أي الكفار ونسائهم. ووجه تخصيصهم بالذكر أن حالتهم أتم أحوال التمتع لاستكمالها جميع اللذات والأُنس.
ويحتمل أن يراد به المجاز عن الأصناف، ووجه ذكره في الآية أن التمتع الذي تمتد إلى مثله العين ليس ثابتاً لجميع الكفار، بل هو شأن كبرائهم، أي فإن فيهم من هم في حال خصاصة، فاعتبر بهم كيف جمع لهم الكفر وشظف العيش.
والنهي عن الحزن شامل لكل حال من أحوالهم من شأنها أن تحزن الرسول، عليه الصلاة والسلام، وتؤسفه. فمن ذلك كفرهم، كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6)، ومنه حلول العذاب بهم، مثل ما حل بهم يوم بدر، فإنهم سادة أهل مكة، فلعلَّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يتحسر على إصرارهم حتى حل بهم ما حل من العذاب. ففي هذا النهي كناية عن قلة الاكتراث بهم، وعن توعدهم بأن سيحل بهم ما يثير الحزن لهم، وكناية عن رحمة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالناس.
ولما كان هذا النهي يتضمن شدة قلب وغلظة، لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين، بقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}وهو اعتراض مراد منه الاحتراس. وهذا كقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(الفتح:29).(التحرير والتنوير 13/65-66)
إفاضة الأعين دمعاً من الحزن
استثنى الله في سورة التوبة شرائح مؤمنة من الملامة لتخلفهم القهري عن أداء الواجب الجهادي، في ظروف انضباطية معينة، فقال تعالى: {ليْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} (التوبة:91-92) من بين هؤلاء المستثنيين الذين يتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً؛ لأنهم لم يجدوا الإمكانية المادية التي تيسر لهم الخروج لأداء الواجب، يبين الرازي أنه تعالى لما بين الوعيد في حق من يوهم العذر مع أنه لا عذر له، ذكر أصحاب الأعذار الحقيقية، وبيَّن أن تكليف الله تعالى بالغزو والجهاد عنهم ساقط وهم أقسام، منهم الذين لا يجدون الأهبة والزاد والراحلة، فلا يجدون ما ينفقون لأن حضورهم في الغزو إنما ينفع إذا قدروا على الإنفاق على أنفسهم، إما من مالهم، أو من مال أناس آخرين يعينهم عليه، ثم إنه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً متضمناً في قوله تعالى: {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ومعناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف، وعن إثارة الفتن، وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا، إما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم، وإما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم، ثم قال تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} وقد اتفقوا بناء على هذا القول إنه لا إثم على الذين قعودوا عن الجهاد، بسبب أنهم لا يجدون ما ينفقون، وهم الفقراء الذين ليس معهم دون النفقة، والمذكورون في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة إلا أنهم لم يجدوا المركوب، والمفسرون ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً. (تفسير الرازي، مفاتيح الغيب، 16 /127-129 بتصرف)
ومن بين تلك الوجوه أنها نزلت فيمن لُقِّبُوا بِالْبَكَّائِينَ؛ لِأَنَّهُمْ بَكَوْا لَمَّا لَمْ يَجِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْحُمْلَانِ حَزَنًا عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْجِهَادِ.
والحَمْلُ يُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، أَيْ إِذَا أَتَوْكَ لِتُعْطِيَهُمُ الْحَمُولَةَ، أَيْ مَا يَرْكَبُونَهُ وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهِ سِلَاحَهُمْ وَمُؤَنَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ. (التحرير والتنوير، 10 /25-295-296)
ولعل الحكمة في التعبير بالإتيان لأجل الحمل، والاعتذار عنه بعدم وجدان ما يحمل عليه من دابة أو غيرها، هي إفادة العموم ليشمل الدابة والسيارة والطيارة وغيرها، واللّه أعلم. (التفسير الواضح، 1 /921)
وقوله تعالى: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} كقول: تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها؛ لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض. (الكشاف، 2 /286)
حجب الخوف والحزن عن أهل الأعراف
خلال تبكيت الكافرين والجاحدين قبيل دخولهم النار، ينادي أصحاب الأعراف رجالاً من المستكبرين بنداء يتضمن دحض زعمهم بأن فقراء المؤمنين لن ينالهم الله برحمته، ويدعى هؤلاء يومهما لدخول الجنة في حال مفعم بالأمن والسرور، خالياً من الخوف والحزن، وفي هذا يقول جل شأنه: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ* أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} (الأعراف:48-49)
الأعراف: جمع عرف، و هو كل مرتفع، و منه عرف الديك، و عرف الفرس؛ لارتفاع ريش رأس الديك، وشعر الفرس، و هو هنا بمعنى شرفة السور العالية. (التفسير الحديث، 1217)
جاء في تفسير القطان أن هذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبِرين الّذين كانوا يعتزون في الدنيا بِغِناهم وقوتهم، ويحتقرون ضعفاءَ المؤمنين لفقرِهم وضعف عصبيتهم. لقد كانوا يزعمون أن من أغناه الله وجعلَه قويّاً في الدنيا فهو الذي يكون له نعيمُ الآخرة، فيقولون لهم الآن: ما أفادَكُم جمعُكم كثيرُ العدد، ولا استكبارُكم على أهل الحق بسبب عصبيتّكم وغناكم!! ها أنتم أذِلاّءُ ترون حالهم وحالكم.
ثم وجّه إليهم سؤال توبيخٍ وتأنيب: {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ}؟ أهؤلاء الذين حلفتم في الدنيا أن رحمة الله لن تنالهم! ها هم قد دخلوا الجنة، وكانوا من الفائزين.
{ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}. فيقال لأصحاب الأعراف بعد أن طال وقوفُهم، وهم ينظرون إلى الفريقين: ادخُلوا الجنةَ لا خوف عليكم من أمر مستقبلكم، ولا أنتم تحزنون عن أمرٍ فاتكم.
وقد تكلم العلماء في هذا المقام كثيراً، وتعدّدت الآراء، فبعضهم قال إن رجال الأعراف ملائكة، وبعضهم قال إنهم الأنبياء، أو عدول الأُمم الشهداءُ على الناس، أو أهل الفترة، أو هم الّذين تساوت حسناتُهم وسيئاتهم، إلى غير ذلك من الأقوال.
الحاصل أن هناك حجاباً بين الجنة والنار، اللهُ أعلمُ بحقيقته، لأنه في عالم الآخرة. والمقصودُ أن ذلك الحجاب يحجِز بين الفريقين، لكنّه لا يمنع من وصول الأصوات، وأن هناك مكاناً له صفةُ الامتياز والعلوّ، فيه رجال لهم من المكانة ما يجعلهم مشرِفين على هؤلاءِ، وهم ينادون كلّ فريقٍ بما يناسبه. يحيُّون أهل الجنة، ويبِكّتُون أهل النار. ثم إن أصحاب هذا الحجاب يدخلون الجنة برحمة من الله وفضله. (تفسير القطان، 2 /48)
فهذه وقفة جديدة أخرى يسر الله إليها عند مسألة من مسائل الحزن، تعلقت بنهي الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، في الآية 88 من سورة الحجر عن الحزن عما في أيدي الكافرين من متاع وملذات، وإفاضة الأعين دمعاً من الحزن، كما كان من الْبَكَّائِينَ؛ الذين بَكَوْا لَمَّا لَمْ يَجِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْحُمْلَانِ حَزَنًا عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْجِهَادِ، وختمت الحلقة بالوقوف عند حجب الخوف والحزن عن أهل الأعراف، حال دعوتهم لدخول الجنة.
آملين التوفيق لختم الحديث عن مسائل تعلقت بالاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، كما رويت عن الرسول الأسوة، محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
6 ربيع الأول 1447هـ