نهاه الله عن حزن مقترن بأمره بالصبر، ونهيه عن الضيق مما يمكر خصومه وأعداؤه، فقال عز وجل: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}(النحل:127)
وقفت الحلقة السابقة عند نهي الله، عز وجل، نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، المستعيذ بالله من الهم والحزن، عن حزن متعلق بمواقف أعدائه وأقوالهم، فنبهه الله إلى تجنب مسببات الحزن المتعلقة بمواقف بعض أعدائه وأقوالهم؛ كالمنافقين والذين هادوا، حسب ما جاء في صدر الآية 41 من سورة المائدة، وجاء هذا النهي عزاء وتسرية للرّسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، عن هذا الحزن الذي كان يقع في نفسه من أولئك، وإضافة إلى هذه التسرية عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بهذا الخطاب، فإن فيه تهويناً لشأن هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام بكلمة، ثم خرجوا منه بكلمة، وهم لن يضروا الله شيئاً، والنهي عن الحزن هنا هو نهي عن الإسراف فيه.
ومعنى {يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} يتوغلون فيه، ويعجلون إلى إظهاره وتأييده، والعمل به عند سنوح الفرص، ويحرصون على إلقائه في نفوس الناس، وجملة {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} تعليل للنهي عن أن يحزنه تسارعهم إلى الكفر بعلة يوقن بها الرسول، عليه الصلاة والسلام، وهذا النفي مراد به نفي أن يعطلوا ما أراده إذ قد كان الله وعد الرسول، صلى الله عليه وسلم، إظهار دينه على الدين كله، ووجه الحاجة إلى النهي عن الحزن: هو أن نفس الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإن بلغت مرتقى الكمال، تعتريها في بعض أوقات الشدة أحوال النفوس البشرية: من تأثير مظاهر الأسباب، وتوقع حصول المسببات العادية عندها، كما وقع للرسول، صلى الله عليه وسلم، يوم بدر. وهو في العريش، وإذا انتفى إضرارهم الله انتفى إضرارهم المؤمنين فيما وعدهم الله. والله يستدرج الكافرين والظالمين ويمهلهم لوقت معين، ولا يحسبن هؤلاء أن إمهال الله لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم؛ لأنهم لا يستغلون العمر في عمل الخير، وإنما يستغلونه في الشر، فتكون عاقبتهم ازدياد الإثم على الإثم، والمبالغة في الباطل والبهتان، ولهم عذاب مهين، وفي إطار نهي الله نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، عن الحزن، وبيان مبررات هذا النهي، يؤكد سبحانه أن العزة لله جميعاً، فالله يسري عن نبيه، صلى الله عليه وسلم، بنهيه عن الحزن لما يقوله أعداؤه وخصومه في شأنه من التخويف والتهديد، ولا يسؤه تكذيبهم وتعزيزهم بكثرة الأموال والأولاد، فالغلبة والقهر على الأعداء بالقدرة من خصائص اللّه تعالى لا يملكها أحد غيره، فهو الذي يعز من يشاء وحده لا شريك له، ولو لم يكن لديه قوة ومنعة، ويذل من يشاء، ولو كان ذا قوة ومنعة، ولهذا فإنه تعالى قادر على سلبهم ما يتعززون به عليك بإهلاك أموالهم وأولادهم وذويهم، وإذلالهم وإهانتهم وإظهار عزك عليهم بالنصر.
الصبر بالله نموذج للمعية الإلهية بالمؤمنين
الآية 127 من سورة النحل المثبت نصها أعلاه، يخاطب بها سبحانه نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، بقوله تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} فصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْتَثِلُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} ويبين الشنقيطي أن الله أَشَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت:35) لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ} الْآيَةَ، مَعْنَاهُ أَنَّ خصْلَةَ الصَّبْرِ لَا يُلَقَّاهَا إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الْحَظُّ الْأَكْبَرُ وَالنَّصِيبُ الْأَوْفَرُ، بِفَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَتَيْسِيرِ ذَلِكَ لَهُ.
وَالْمَعِيَّةُ الإلهية بالْمُؤْمِنِينَ، تكون بِالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ، وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه:46) وَقَوْلِهِ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ...} (الأنفال:12)
وَقَوْلِهِ: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40)
وَقَوْلِهِ: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشعراء:62)
وقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ والَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل:128) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. (أضواء القرآن في إيضاح القرآن بالقرآن:2/468)
ويبين ابن عاشور أن الله تعالى خص النبي، صلى الله عليه وسلم، بالأمر بالصبر للإشارة إلى أن مقامه أعلى، فهو بالتزام الصبر أولى، أخذاً بالعزيمة بعد أن رخص لهم في المعاقبة.
وجملة {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} معترضة بين المتعاطفات، أي وما يحصل صبرك إلا بتوفيق الله إياك، وفي هذا إشارة إلى أن صبر النبي، صلى الله عليه وسلم، عظيم؛ لأنه لقي من أذى المشركين أشد مما لقيه عموم المسلمين، فصبره ليس كالمعتاد، لذلك كان حصوله بإعانة من الله. (التحرير والتنوير:13/270)
وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
الله جل في علاه حذر نبيه، صلى الله عليه وسلم، من الحزن على متنكبي دربه إن لم يؤمنوا، كقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِين} (الشعراء:3).
ثم أعقبه بنهيه أن يضيق صدره من مكرهم، وهذه أحوال مختلفة تحصل في النفس باختلاف الحوادث المسببة لها، فإنهم كانوا يعاملون النبي، صلى الله عليه وسلم، مرة بالأذى علناً، ومرة بالإعراض عن الاستماع إليه وإظهار أنهم يغيظونه بعدم متابعته، وآونة بالكيد والمكر له، وهو تدبير الأذى في خفاء.
والضيق بفتح الضاد وسكون الياء مصدر ضاق، مثل السير والقول.
وفي الآية الثانية عشرة من سورة هود يقول تعالى: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}(هود: 12). والمراد ضيق النفس، وهو مستعار للجزع والكدر، كما استعير ضده وهو السعة والاتساع للاحتمال والصبر، يقال: فلان ضيق الصدر، وقال تعالى في آخر الحجر: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} (الحجر:97). ويقال: سعة الصدر.
والظرفية في {ضَيْقٍ} مجازية، أي لا يلابسك ضيق ملابسة الظرف للحال فيه.
و{مَا} مصدرية، أي من مكرهم. واختير الفعل المنسبك إلى مصدر لما يؤذن به الفعل المضارع من التجدد والتكرر. (التحرير والتنوير:13/271)
ويعاضد هذه الآية الكريمة قوله تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (النمل:70)
أي: لا يضيق صدرك بمكرهم، ولا تهتم بشأنهم، فأنا ناصرك عليهم. (البحر المديد:4/97)
ويبين ابن عاشور أن الضيق: بفتح الضاد وكسرها، قرأه الجمهور بالفتح، وابن كثير بالكسر. وحقيقته: عدم كفاية المكان أو الوعاء لما يراد حلوله فيه، وهو هنا مجاز في الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء فيحس المرء في مجاري نفسه بمثل ضيق عرض لها، وإنما هو انضغاط في أعصاب صدره. (التحرير والتنوير:19/299)
والإحسان هنا يحتمل أن يراد به فعل الحسنات، والمعنى الذي أشار له النبي، صلى الله عليه وسلم، بقوله: (الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة لقمان، باب قوله تعالى{إن الله عنده علم الساعة}(لقمان:34)) وهذا هو الأظهر؛ لأنه رتبة فوق التقوى. (التسهيل لعلوم التنزيل:2/96)
فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُم ولا قولهم
يتواصل النهي القرآني عن الحزن بسبب كفر الكافرين وأقوالهم المسيئة المؤذية، فقد نصت عليه آيات قرآنية أخرى، منها قوله عز وجل: {وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (لقمان:23)
فالله، عز وجل، يسلي في خطابه الكريم هذا الرسول، صلى الله عليه وسلم، بتهوين كفرهم عليه، تسلية له وتعريضاً بقلة العبء بهم؛ لأن مرجعهم إلى الله فيريهم الجزاء المناسب لكفرهم، فهو تعريض لهم بالوعيد.
وأسند النهي إلى كفرهم عن أن يكون محزناً للرسول، صلى الله عليه وسلم، مجازاً عقلياً في نهي الرسول، عليه الصلاة والسلام، عن مداومة الفكر بالحزن لأجل كفرهم؛ لأنه إذا قلع ذلك من نفسه انتفى إحزان كفرهم إياه. (التحرير والتنوير:21/119)
وفي سورة يس يقول تعالى: {فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (يس:76)
فهذا الذي يقولونه عنك، من أنك كاذب، وشاعر، ومجنون، ولا يحزنك ما يقولونه في آلهتهم، وأنها شفعاء لهم من دون اللّه...
وفي قوله تعالى: {إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ} تهديد للمشركين، ووعيد لهم بالحساب الشديد، والعذاب الأليم، فاللّه سبحانه يعلم ما يسرون وما يعلنون، من كفر، وضلال، وبهتان، وهو سبحانه محاسبهم ومجازيهم عليه. (التفسير القرآني للقرآن:1/484)
فهذه عينة من النواهي الربانية الصادرة للنبي، صلى الله عليه وسلم، عن الحزن تعلقت بظروف وأحوال معينة، وفي المحصلة فإنها مستندات وثيقة لحالة الاستعاذة الدائمة من الحزن العام والخاص.
فهذه وقفة جديدة يسر الله إليها عند النهي عن الحزن، آملين التوفيق لمتابعة تفاصيل ومسائل أخرى تتعلق بمضمون حديث أَنَس بْن مَالِكٍ، حول الاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، كما رويت عن الرسول الأسوة، محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
16 محرم 1447هـ