.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يشرع التعبد لله بالصيام والفطر - الحلقة الأولى

==========================================================

عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، أَنَّهُ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَجَاءَ فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَيْنِ يَوْمَانِ، نَهَى رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ صِيَامِهِمَا، يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ»(صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحي)
الحمد لله أن مكننا من صيام شهر رمضان المبارك، راجين أن يتقبله منا، وأن يجزينا العتق من النار، ودخول الجنة من باب الريان، الذي أعده للصائمين، وعقب أداء هذه العبادة السنوية في موسمها المبارك، يحسن التذكير بقضية تعبدية تتعلق بالفطر الواجب، وبخاصة بعد أداء فريضة صيام شهر رمضان المبارك.
التعبد لله بالأكل والشرب
الله الذي فرض الصيام في رمضان، فرض الإفطار عقبه، ليتمتع العابد بالإباحة عقب التزامه بالكف والإمساك عن مباحات بمقتضى عبادة الصيام، فالله يريد من المسلم أن يتمتع بما منع عنه من مباحات بعد أن أُمر بالإمساك عنها نهار الصيام، فالله ليس بحاجة لأن يجوعنا ويعطشنا ويحرمنا ملذات وطيبات أصلها مباح، وقد قال الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو يحدث عن سلوك الصائم: « مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في رمضان)
وقال سبحانه في لحوم الهدي: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}(الحج: 36-37) فالمقصد العام من التقرب إلى الله بالهدي هو رجاء التقوى، وهو نفسه المقصد الذي يرتجى من الصيام، حيث عقب الله على أمره به بقوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فقال عز وجل: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة:183)
وللدلالة على استبعاد مقصد حرمان الناس وتجويعهم ومنعهم من الملذات، كما قد يبدو من ظاهر بعض العبادات، فقد أنكر سبحانه تحريم الطيبات والزينة التي أخرجها الله لعباده، فقال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:32)
من هنا؛ فإن منع الصيام في عيد الفطر بعد فرض الصيام في شهر رمضان، يشير إلى أن الله سبحانه يحب لنا أن نأكل ونتمتع بالطعام والشراب والملذات المباحة شرعاً، كما يحب لنا العمل بأمره سبحانه بالإمساك عنها في نهار الصيام، وبالتالي؛ فإن المسلم يتعبد لله في صيامه وفطره على حد سواء؛ لأنه في الحالين ينفذ أمر الله، ويلتزم طاعته سبحانه.
أيام التشريق
عيدا الفطر والأضحى تفضل الله علينا فيهما بالتعبد إليه سبحانه بالتمتع بما منعنا عنه من مباحات الأكل والشراب، فعَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَهُ وَأَوْسَ بْنَ الْحَدَثَانِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَنَادَى «أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» (صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق) وقوله عليه السلام: (أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) إنما يختص بذلك من لم يكن عليه صوم واجب.
والنهي عن صيام يومي الفطر والأضحى - النحر- يشمل كذلك النهي عن صيام أيام التشريق الثلاثة التي تليه، فقد جاء في صحيح مسلم: بَابُ تَحْرِيمِ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وفيه عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» (صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق) وأيام التشريق هي الأيام المعدودات، وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة.(شرح صحيح البخاري لابن بطال:4/137)
وجاء في عمدة القاري أنها سميت أَيَّام التَّشْرِيق لِأَن لُحُوم الْأَضَاحِي تشرق فِيهَا، أَي: تنشر فِي الشَّمْس، وإضافتها إِلَى منى لِأَن الْحَاج فِيهَا فِي منى.
وَقيل: لِأَن الْهَدْي لَا ينْحَر حَتَّى تشرق الشَّمْس، وَقيل: لِأَن صَلَاة الْعِيد عِنْد شروق الشَّمْس أول يَوْم مِنْهَا، فَصَارَت هَذِه الْأَيَّام تبعاً ليَوْم النَّحْر، وَهَذَا يعضد قَول من يَقُول: يَوْم النَّحْر مِنْهَا.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: التَّشْرِيق التَّكْبِير دبر الصَّلَاة.
وَاخْتلفُوا فِي تعْيين أَيَّام التَّشْرِيق، وَالأَصَح أَنَّهَا ثَلَاثَة أَيَّام بعد يَوْم النَّحْر.
وَاخْتلفُوا فِي صِيَامها على أَقْوَال، منها: أَنه لَا يجوز صيامها مُطلقًا.
وَالثَّانِي: أَنه يجوز الصّيام فِيهَا مُطلقًا.
وَالثَّالِث: أَنه يجوز للمتمتع الَّذِي لم يجد الْهَدْي، وَلم يصم الثَّلَاث فِي أَيَّام الْعشْر.
وَالرَّابِع: جَوَاز صيامها للمتمتع. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري:11/113 بتصرف)
فأيام التشريق يحرم صيامهما، إلا لمن كان حاجاً، ولزمه هدي، ولم يملكه أو ثمنه، فيصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، عملاً بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(البقرة: 196)
قال ابن بطال: ولا خلاف بين العلماء أن هذه الآية نزلت يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، فعلم أنه أباح لهم صومها، وأنهم صاموا فيها؛ لأن الذي بقي من العشر الثامن والتاسع، والثامن الذي نزلت فيه الآية لا يصح صومه؛ لأنه يحتاج إلى تبييت من الليل، والعاشر يوم النحر، والإجماع أنه لا يصام، فعلم أنهم صاموا بعد ذلك.
وعن عائشة وابن عمر قالا: (لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ)(صحيح البخاري كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق) يرفع الإشكال في ذلك.(شرح صحيح البخاري لابن بطال:4 /137) وقَوْله: (قَالَا) أَي: عَائِشَة وَعبد الله بن عمر، وَقَوله: (يصمن) أي يصام فيهن.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:11/114)
وكَانَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «تَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ بِمِنًى، وَكَانَ أَبُوهَا يَصُومُهَا»(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق)
مع التنبيه إلى وجود آراء للعلماء متباينة حول هذه المسألة.
فرح الصائم بفطره
الصائم الذي يتم صيامه لله، يفرح بفطره ولقاء ربه، حسب حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ)(صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ} [الفتح: 15]) فترك الصائم التمتع بالأكل والشرب وبالشهوة من أجل الله ونيل مرضاته، يقابله الله بجزاء احتفظ بكمه وكيفه سبحانه لنفسه، فقال جل شأنه في الحديث القدسي: (الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)
فإحدى فرحتي الصائم تتمثل في الانفكاك من قيد الصيام بالفطر، سواء بالفطر اليومي بعد غروب الشمس، أم بالفطر بعد إتمام صيام شهر رمضان، ما يعني أن الفطر سلوك مبهج يعبر عن السعادة بأداء الصوم، وفي الوقت نفسه السعادة بالتحلل من قيد الصيام، أي أن الصيام والفطر يتضافران في تحقيق النفع والخير للصائم، والله أعلم.
فهذه وقفة مع بعض جوانب الحديث عن التعبد لله بالصيام والفطر، آملين أن ييسر الله متابعة الحديث عن جوانب أخرى لهذا الموضوع، ونسأل الله العلي القدير أن يهدينا صراطه المستقيم، لنعبده سبحانه كما أمر وحسب ما يحب، على نهج نبينا وخاتم النبيين والمرسلين، محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
10 شوال 1445هـ

تاريخ النشر 2024-04-19
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس