.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يعزز التكافل بين الناس في العيد

==========================================================

عن سَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من ضَحَّى مِنْكُمْ، فلا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وفي بَيْتِهِ منه شَيْءٌ، فلما كان العَامُ المُقْبِلُ، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، نَفْعَلُ كما فَعَلْنَا عَامَ المَاضِي؟ قال: كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا، فإن ذلك العَامَ كان بِالنَّاسِ جَهْدٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فيها)(صحيح البخاري، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها)
عني الإسلام بتحقيق التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم، وهو يتجلى هنا بحثّ أبناء المجتمع الواحد على سد حاجات بعضهم بعضاً، ودفع الشر عن بعضهم بعضاً كذلك، فينبري القادر إلى مساعدة المحتاج، والغني يؤازر الفقير، ويحمي القوي الضعيف، وينصره بالحق، وحين يكون ذلك فيهم، يلمس عناصر المجتمع التكامل والتضافر، فلا يبيت فيه جائع، ولا يعاني مكلوم إلا وجد من يضمد جراحه، ويلبي حاجاته.
وفي الإسلام من الشرائع والأحكام والقيم التي تعزز التكافل الاجتماعي وتدعمه، في جوانب الحياة، ومجالاتها كافة، فالزكاة والصدقات الواجبة والتطوعية، وحتى كفارات الأيمان وبعض الأخطاء تصب في معين خدمة الفقراء والمحتاجين، ونظام النفقات، ومشاريع صلة الأرحام في المناسبات الدينية الموسمية وغيرها، تشهد بجلاء ووضوح على مدى عناية الإسلام بالتكافل الاجتماعي، ليكون المسلمون في المحصلة كما يريد لهم دينهم، كالجسد الواحد، إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ، تَدَاعَى له سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
التكافل المتمثل بالإطعام من الأضاحي
من مجالات تعزيز روح التكافل بين الناس في العيد، الإطعام من لحوم الأضاحي، التي يتقرب المسلمون بها لربهم الذي لا يرقب سبحانه منها لحماً ولا دماء، فحاشا لله أن تلزمه أو أن ينتظر الانتفاع بها لنفسه، مصداقاً لقوله عز وجل: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}(الحج: 37)
وفي حديث سلمة الأكوع، المثبت نصه أعلاه، إشارة واضحة لحرص الإسلام على مساعدة الناس بلحوم الأضاحي، حتى إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، منع في عام واجهت الناس فيه جائحة من ادخار لحوم الأضاحي لأكثر من ثلاثة أيام، معللاً هذا المنع بِأنه كان بالنَّاسِ جَهْدٌ، فَأَراَد أَنْ يعِينُوا فيها، جاء في فتح الباري، أن قوله: (كان بالنَّاسِ جَهْدٌ) بالفتح؛ أي مشقة من جَهد قحط السَنة، وقوله: (فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فيها) من الإعانة، قال عياض: الضمير في تعينوا فيها للمشقة، المفهومة من الجَهد، أو من الشدة، أو من السنة، لأنها سبب الجَهد.(فتح الباري، 10/26)

حكم ادخار لحوم الأضاحي
يظهر مما سبق أن التكافل جُعِل هدفاً يتحقق عبر توزيع الأضاحي، وما كان النهي عن ادخار الأضحية لأكثر من ثلاثة أيام إلا عارضاً، وإلا فالأصل أن يتقيد ذبحها أو نحرها بأيام العيد، لكن أكلها وتوزيعها يمكن أن يمتد لما بعد ذلك، فعن عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قالت: (الضَّحِيَّةُ كنا نُمَلِّحُ منه، فَنَقْدَمُ بِهِ إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بِالْمَدِينَةِ، فقال: لَا تَأْكُلُوا إلا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ منه، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)(صحيح البخاري، كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها)، فهذه رواية مؤكدة للحديث أعلاه، من أن ادخار لحوم الهدي والأضاحي في الأصل مباح، لكن لعارض جَهد الناس قيد بثلاثة أيام، عوناً لهم، وعن عبد الرحمن بن عَابِسٍ، عن أبيه، قال: (قلت لِعَائِشَةَ: أَنَهَى النبي، صلى الله عليه وسلم، أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؟ قالت: ما فَعَلَهُ إلا في عَامٍ جَاعَ الناس فيه، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَإِنْ كنا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، قِيلَ: ما اضْطَرَّكُمْ إليه؟ فَضَحِكَتْ، قالت: ما شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم، من خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حتى لَحِقَ بِاللَّهِ)(صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان السلف يدخرون في بيوتهم وأسفارهم...)
علماً أن العلماء اختلفوا في حكم ادخار الأضاحي، فذهب قوم إلى تحريم ادخارها بعد ثلاث، منهم جماعة من الظاهرية، واحتجوا بالنهي عن ادخارها لما فوق ثلاث، وخالفهم في ذلك جماهير العلماء، وفقهاء الأمصار، منهم الأئمة الأربعة، وأصحابهم، فلم يروا بأكلها وادخارها بأسا، واحتجوا بالحديث المذكور أعلاه، وبأحاديث أُخر.(عمدة القاري، 21/159)
قال ابن المنير: وجه قولهم: هل نفعل كما كنا نفعل؟ مع أن النهي يقتضي الاستمرار؟ لأنهم فهموا أن ذلك النهي ورد على سبب خاص، فلما احتمل عندهم عموم النهي، أو خصوصه من أجل السبب، سألوا، فأرشدهم إلى أنه خاص بذلك العام؛ من أجل السبب المذكور.(فتح الباري، 10/26)
تجنب ادّخار لحوم الأضاحي لهذا العام 1441هـ
إعانة الفقراء هدف استخدمت وسيلة النهي عن ادخار الأضاحي وقت الجهد لتحقيقه، وفي هذا العام الذي يواجه فيه الناس جَهداً عظيماً بسبب تداعيات جائحة الكورونا وآثارها الاقتصادية الصعبة، فالأولى بالذين سيضحون هذا العام أن يأخذوا بسنته صلى الله عليه وسلم، التي سنها حين كان بالناس جَهد وبلاء، فمنعهم من ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام.
تضمين الحث على التصدق في مواعظ العيد
العيد مناسبة للابتهاج والسرور، والذكر والتهليل، وأداء الشعائر، ومما يلفت النظر فيه، من سيرة خير الأنام، صلى الله عليه وسلم، عنايته بالحث على الصدقات خلال مواعظ العيد، فعن ابن عَبَّاسٍ، قال: (خَرَجْتُ مع النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم فِطْرٍ أو أَضْحَى، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أتى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ)(صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب خروج الصبيان إلى المصلى)
فالصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والذي ينفق ماله احتساباً لوجه الكريم سبحانه، يتمتع بمقامه الرفيع مع السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأي متدبر يدرك أثر الصدقة على تسهيل حياة المعوزين، الذين يحبون مقدمي العون لهم، ويرجون لهم تحصيل المزيد من الخيرات والنماء لأموالهم، ما دامت حقوقهم منها مضمونة،
وتصل إليهم باحترام، فليس عجيباً والحال هكذا أن يُعنى صلوات الله وسلامه عليه، بأمر النساء بالصدقة، وهو يعظهن عقب صلاة العيد، ليكن لهن مثل كرام الرجال الفضل والأجر والإحسان، والإسهام في تحقيق التكافل في مجتمعهن، عملاً
بأحكام دينهن، وقيمه التي أنزلها رب البرية سبحانه، على نبيه الحبيب محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
10 ذو الحجة 1441هـ

تاريخ النشر 2020-07-31
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس