ينجي الله حسب ما وعد في القرآن الكريم الموحى به إلى نبيه الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، مصداقاً لقوله عز وجل: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزمر:61)
ضمن متابعة الحديث عن قضايا ومسائل متشعبة عن موضوع الاستعاذة بالله من الهم والحزن وأمور أخرى، وقفت الحلقة السابقة عند وعد رباني لشريحة من الخلق يتصفون بالإيمان، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، بأجر من عنده، ومن ضمن ذلك رفع الخوف والحزن عنهم، كما هو مبين في الآية 277من سورة البقرة.
والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي، وهو {لا خوف عليهم} لإفادة نفي جنس الخوف نفياً قاطعاً، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات، والتعبير في نفي الحزن بالخبر الفعلي، وهو {يحزنون} لإفادة تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة، أي بخلاف غير المؤمنين. ولما كان الخوف والحزن متلازمين كانت خصوصية كل منهما سارية في الآخر.
وفي الآية 69 من سورة المائدة بيان أن من آمن بالله واليوم الآخر، له النجاة، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها. وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الأزمنة. وقد أكد سبحانه نفي الخوف والحزن عمن آمن وأصلح في الآية 48 من سورة الأنعام، فاللّه يحفظهم من كلّ فزع، ولا يحزنون في الدّنيا مثل حزن المشركين في شدّته وطول مدّته، وإنما يصبرون على ما أصابهم، ويلتمسون الأجر عند اللّه، ويتأملون العوض منه، لأن اللّه تعالى أرشدهم للشكر عند النعمة والصبر عند النقمة، وتفويض الأمر للخالق، كما هو مبين في الآيات 22- 23 من سورة الحديد.
ووعد الله من اتقى وأصلح، بحمايتهم من الخوف والحزن، كما هو مبين في الآية 35 من سورة الأعراف، فلا خوف عليهم من عقوبة الله في الدنيا والآخرة، ولا هم يحزنون من شيء من ذلك، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقاً بمقدار قوة التقوى والصلاح.
وقد أنذر اللّه تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلاً يقصون عليهم آياته ويخبرونهم بأحكامه وفرائضه، وحيال ذلك هم في أحد حالين، أحدهما يبشّر، والآخر يحذّر، فمن اتّقى اللّه وأصلح ما بينه وبين ربه، فترك المحرّمات، وفعل الطّاعات، فلا خوف عليه من عذاب الآخرة، ولا يطرأ عليه حزن حين الجزاء على ما فاته، أو فلا خوف عليه من أحوال المستقبل، ولا حزن عليه من أحوال الماضي، بخلاف الذين كذّبت قلوبهم بآيات اللّه واستكبروا عن قبولها والعمل بها، فأولئك أصحاب النّار، ماكثون فيها مكثاً دائماً مخلّداً.
نجاة الذين اتقوا بمفازتهم من السوء ولا هم يحزنون
يَعدُ الله في سورة الزمر المتقين بحجب الحزن عنهم، فيقول جل شأنه: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزمر:61) يبين عبد الكريم الخطيب أن المفازة تعني الطريق المخوف، الذي يجتازه المنتقل من مكان إلى مكان، وسمّى مفازة على سبيل التفاؤل.
ويذهب المفسّرون إلى أن {بِمَفَازَتِهِمْ} جار ومجرور متعلق بالفعل {ينجّي} على تقدير أن المفازة بمعنى الفوز، والباء للسببية؛ أي بسبب فوزهم، ويكون المعنى: وينجي اللّه الذين اتقوا بهذا الفوز الذي حصلوا عليه في الآخرة.. ويرى الخطيب أن متعلق الجار والمجرور هو قوله تعالى: {وَيُنَجِّي} وتبقى المفازة على معناها الذي صار حقيقة لغوية عليها، والباء للملابسة، ويكون المعنى: وينجي اللّه الذين اتقوا وهم ملتبسون بهذه المفازة، سائرون في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} حيث تحرسهم عناية اللّه، وتحفّ بهم ألطافه {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على فائت فاتهم من أمر الدنيا.
ويجوز عنده كذلك أن يتعلق الجار والمجرور بقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} ويكون المعنى: وينجي اللّه الذين اتقوا، لا يمسهم السوء وهم بمفازتهم التي يجتازونها إلى موقف الحساب والجزاء، ولا هم يحزنون على فائت، إذا هم رأوا ما أعدّ اللّه لهم من نعيم ورضوان، في جنة عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين. (التفسير القرآني للقرآن، 2 /190)
نفي الخوف والحزن عمن اتبع الهدى
ضمن البشائر الربانية الخاصة بالحماية من الخوف والحزن، وعد الله جل في علاه من يتبع الهدى بالحماية منهما، فقال تعالى:{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 38)
أي قال الله لآدم وزوجه بعد أن أزلهما الشيطان وأخرجهما مما كانا فيه من نعيم الجنة: اهبطوا من الجنة جميعًا، وسيأتيكم أنتم وذرياتكم المتعاقبة ما فيه هدايتكم إلى الحق، فمن عمل بها فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا، والذين جحدوا وكذبوا بآياتنا المتلوة ودلائل توحيدنا، أولئك الذين يلازمون النار، هم فيها خالدون، لا يخرجون منها. كما هو مبين في الآية التالية: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:39)، (التفسير الميسر، 1 /52-53)
ويبين أبو السعود المعنى هنا: بأن من تبع هدى الله فلا خوف عليهم في الدارين من لحوق مكروه، ولا هم يحزنون من فوات مطلوب، أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك، لا أنه يعتريهم ذلك، لكنهم لا يخافون ولا يحزنون، ولا أنه لا يعتريهم نفس الخوف والحزن أصلاً، بل يستمرون على السرور والنشاط، كيف لا؟! واستشعار الخوف والخشية استعظاماً لجلال الله سبحانه وهيبته، واستقصاراً للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية، من خصائص الخواص والمقربين، والمراد بيان دوام انتفائهما. (تفسير أبي السعود، 1 /93)
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم من الله الْحُسْنَى لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ
يبشر الله الذين سبقت لهم منه سبحانه الحسنى، بأن يرفع عنهم حزن الفزع الأكبر، إضافة إلى مثوبات عظيمة أخرى، فيقول جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ* لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ* لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (الأنبياء: 101-103)
يبين ابن عاشور أن السبق، حقيقته: تجاوز الغير في السير إلى مكان معين. ومنه سباق الخيل. واستعمل هنا مجازاً في ثبوت الأمن في الماضي، فالذين حصلت لهم الحسنى في الدنيا؛ أي حصل لهم الإيمان والعمل الصالح بتوفيق الله وتقديره، كما حصل الإهلاك لأضدادهم بما قدر لهم من الخذلان.
والحسنى: الحالة الحسنة في الدين، قال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ...} (يونس: 26)
أو الموعدة الحسنى، أي تقرر وعد الله إياهم بالمعاملة الحسنى. وذكر اسم الإشارة بعد ذلك لتمييزهم بتلك الحالة الحسنة، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما تقدم على اسم الإشارة من الأوصاف، وهو سبق الحسنى من الله.
واختير اسم إشارة البعيد للإيماء إلى رفعة منزلتهم، والرفعة تشبه بالبعد.
وجملة: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} بيان لمعنى مبعدون، أي مبعدون عنها بعداً شديداً بحيث لا يلفحهم حرها، ولا يروعهم منظرها، ولا يسمعون صوتها، والصوت يبلغ إلى السمع من أبعد ما يبلغ منه المرئي.
والحسيس: الصوت الذي يبلغ الحس، أي الصوت الذي يسمع من بعيد، أي لا يقربون من النار ولا تبلغ أسماعهم أصواتها، فهم سالمون من الفزع من أصواتها، فلا يقرع أسماعهم ما يؤلمها.
وعقب ذلك بما هو أخص من السلامة وهو النعيم الملائم. وجيء فيه بما يدل على العموم وهو {فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ} وما يدل على الدوام، وهو {خَالِدُونَ}.
والشهوة: تشوق النفس إلى ما يلذ لها. وجملة: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ} خبر ثان عن الموصول.
والفزع: نفرة النفس وانقباضها مما تتوقع أن يحصل لها من الألم، وهو قريب من الجزع، والمراد به هنا فزع الحشر حين لا يعرف أحد ما سيؤول إليه أمره، فيكونون في أمن من ذلك بطمأنة الملائكة إياهم.
وذلك مفاد قوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فهؤلاء الذين سبقت لهم الحسنى هم المراد من الاستثناء في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (النمل:87)
والتلقي: التعرض للشيء عند حلوله تعرض كرامة. والصيغة تشعر بتكلف لقائه، وهو تكلف تهيؤ واستعداد.
وجملة: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} مقول لقول محذوف، أي يقولون لهم: هذا يومكم الذي كنتم توعدون، تذكيراً لهم بما وعدوا في الدنيا من الثواب، لئلا يحسبوا أن الموعود به يقع في يوم آخر. أي هذا يوم تعجيل وعدكم. والإشارة باسم إشارة القريب لتعيين اليوم، وتمييزه بأنه اليوم الحاضر. وإضافة "يوم" إلى ضمير المخاطبين لإفادة اختصاصه بهم، وكون فائدتهم حاصلة فيه. (التحرير والتنوير، 17 /114-115 بتصرف)
فهذه وقفة جديدة أخرى يسر الله إليها عند مسألة من مسائل الحزن، تعلقت بنجاة الذين اتقوا بمفازتهم من السوء ولا هم يحزنون، ونفي الخوف والحزن عمن اتبع الهدى، وأن الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم من الله الْحُسْنَى لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ. آملين التوفيق لمتابعة تفاصيل ومسائل أخرى تتعلق بالاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، كما رويت عن الرسول الأسوة محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
28 صفر 1447هـ